اقتباس
إن كانت هذه حقيقة الوسطية عندنا فإن قوما يطلقون لفظ: "الوسطية" ويريدون به: التفلت من الدين وتمييع الشريعة وتضييع حدودها! فيستخدمون لفظ الوسطية لشرعنة ما لم يأذن به الله ولا رسوله سواء في الأفكار أو في السلوك؛ أو التنازل عن شيء من أحكام الشريعة تحت مسوغ التيسير والوسطية!...
ما أغلاها من نصيحة نبوية نافعة، يقول فيه -صلى الله عليه وسلم-: "والقصد القصد تبلغوا"(رواه البخاري)، يقول صاحب فتح الباري: " والقصد: الأخذ بالأمر الأوسط.. أي: الزموا الطريق الوسط المعتدل، ومنه قوله في حديث جابر بن سمرة عند مسلم كانت خطبته قصدا أي لا طويلة ولا قصيرة"، وتبلغوا: أي تصلوا إلى غايتكم وهدفكم.
فأمتنا أمة عدل وخيار ووسط: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة : 143]، يقول الخازن: "أمة وسطا: يعني عدولا خيارا، وخير الأمور أوسطها"..
فأما سبب كوننا أمة وسطا، فقد ذكره المفسرون، قائلين: "أمة وسطا: بين الغلو والتقصير؛ فإنكم لم تغلو غلو النصارى حيث وصفوا المسيح بالألوهية، ولم تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد الزنا"..
***
ودائما وأبدا ما تجد الخير في أوسط الأمور، فالسنة -كما يقول الحسن البصري- "بين الغالي والجافي.. الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم"، وأكد عمر بن عبد العزيز ذلك قائلا: "وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم".
ويود الشيطان ويحرص لو جرنا إلى أحد الطرفين؛ إلى الإفراط المغالاة والمبالغة أو إلى التفريط والتضييع والتقصير؛ فإن كلاهما خسران وهلاك وبوار، وفي هذا كلام ثمين قيم للعلامة ابن القيم يقول فيه: "وما أمر الله -عز وجل- بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما افراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين.
فإنه يأتي إلى قلب العبد فيستامه، فإن وجد فيه فتورًا وترخيصًا أخذه من هذه الخطة فثبطه وأقعده وضربه بالكسل والتواني والفتور.. وإن وجد عنده حذرا وجدًا وتشميرًا وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد وسول له أن هذا لا يكفيك وهمتك فوق هذا.. وقد فتن بهذا أكثر الخلق، ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط".
***
وإن المتأمل في نصوص الشريعة يجدها كلها وجميعها بلا استثناء وسطا وعدلا؛ فهي تتوسط بالعبد في كل أمر، ففي باب الإنفاق يقول القرآن: (وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 67]، وفي الموازنة بين الدنيا والآخرة يقول: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)[القصص: 77]، وفي الجمع بينهما يقول: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)[البقرة: 201].
وكما أمر القرآن، أمرت السنة؛ فعن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"(متفق عليه).
وعنه أنس بن مالك أيضا قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟"، قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد"(متفق عليه).
وزار سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال: كل؟ قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صدق سلمان"(رواه البخاري)
وهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفض وينهى عن كل محاولة للغلو والإفراط، ويردهم إلى التوسط والاعتدال.
***
وإن كنا نقصد بالوسطية: الاعتدال في جميع مناحي الحياة؛ في السلوك والمواقف والتوجهات والمبادئ والاختيارات والتصورات والمناهج.. والتوازن بين متطلبات الروح والجسد وبين السعي للدنيا وللآخرة.. والتحري الدائم للحق وللخير وللصواب والصحيح الملائم.. وأن مرجع الوسطية إلى الدين والشرع لا إلى أهواء البشر..
إن كانت هذه حقيقة الوسطية عندنا فإن قوما يطلقون لفظ: "الوسطية" ويريدون به: التفلت من الدين وتمييع الشريعة وتضييع حدودها! فيستخدمون لفظ الوسطية لشرعنة ما لم يأذن به الله ولا رسوله سواء في الأفكار أو في السلوك؛ أو التنازل عن شيء من أحكام الشريعة تحت مسوغ التيسير والوسطية!...
وأصبحت ألفاظ مثل: "التشدد، والغلو، والرجعية، والتخلف.." اتهامات جاهزة ومعدة مسبقا لكل "من تسول له نفسه" الاعتراض على تنازلهم وسلوكهم هذا! فما أولاهم بقول الله -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)[النساء: 61]، وعلى العكس تماما تجد حال المؤمنين: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[النور: 51].
ونصدع فيهم: لا تحاولوا أن تكتسوا بجلود الحملان، ولا أن تلبسوا ثوب المصلحين فإنكم مفضوحون، فقد "قال غير واحد من الشيوخ والعلماء: "لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي""(الرد على المنطقيين، لابن تيمية).
وفي هذا الملف العلمي بيان لحقيقة الوسطية، ومرادفاتها ومضاداتها، وتوضيح ضوابطها وأشكالها، والتطرق لمن يستغل هذا المصطلح ويوظفه حسب هواه خارجا به عن مقتضياته ومفهومه الشرعي... والله من وراء القصد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم