عناصر الخطبة
1/ الإسلام دين توسُّط بين التفريط والغُلوّ 2/ نصوص وأحاديث ومواقف نبوية تدعو للتوسُّط وتَنْهَى عن الغُلوّ 3/ عاقبة الغلوّاقتباس
ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى? تفريط وإضاعة، وإما إلى? إفراط وغلو؛ ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدي بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين؛ فكما أن الجافي عن الأمر مُضَيِّعٌ له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد ..
كما أمر الله تعالى عباده بعدم التفريط في الدين، والتضييع للحدود، والتقاعس عن الطاعة، فقد أمرهم بعدم الغلو والإفراط والتجاوز والتشديد على أنفسهم؛ بل الأمر في ذلك آكَدُ وأقوى، وأشَدُّ وأولى.
والغُلُوُّ والتَطَرُّفُ أخطرُ ألف مرة من التقصير والتهاون؛ لأن التقصير والتهاون غالباً ما يكون ضرره وأثره على المقصِّر نفسه، أما الغلو والتشديد والإفراط فإنها براكينُ مُدَمِّرَةٌ، وعواصف هالكة، لا تتوقف أضرارها عند معتنقيها، ولا هم يتوقفون بها عند أنفسهم.
ولقد رسم الله لعباده الصراط المستقيم، والنهج القويم، وأمرهم بلزومه، بل أمرهم في كل ركعة يركعونها له أن يدعوه ويرجوه أن يهديهم صراطه المستقيم، وأن يجنبهم طريق المغضوب عليهم والضالين المتعدين لحدود الله، أو المضيعين لها.
والصراط المستقيم هو التوسط والاعتدال في كل الأمور الدنيوية والدينية، ولقد جاءت النصوص الشرعية داعية إلى الاستقامة، مُحَذِّرة من الغلو، ناهية عن الطغيان. وذلك في صور متعددة، وأساليب متنوعة، ومنها ما يلي:
1- الدعاء الخاشع، واللجوء الدائم إلى الله تعالى بالهداية إلى الصراط المستقيم، حيث لا تصح صلاة إلا بالفاتحة المتضمنة لهذه الآية العظيمة، حيث يرددها المسلم في كل يوم وليلة في أكثر من عشرين مرة، وهو في أحسن أحواله، وأجمل أعماله؛ وهي الصلاة، وما ذلك إلا دليل على أهمية الصراط المستقيم، وأن الهداية له هي النعمة العظمى، والمرتبة الأسمى، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة:6-7].
ولما أمرنا الله -سبحانه- أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، كان ذلك مما يبين أن العبد يُخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين؛ إما الإفراط والتجاوز للحدود، وإما التفريط والتضييع للدين.
2- ومن الأساليب في الدعوة إلى الاستقامة الأمر الصريح للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولمن اتبع هديه من المؤمنين بأن يستقيموا كما أمرهم الله تعالى، وكما يريد لهم، دون طغيان أو زيادة أو تشديد، فقال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:112].
فالله -سبحانه- يأمر بالاستقامة التي هي الاعتدال، والمضي على النهج دون انحراف، ويعقب بالنهي عن الطغيان مما يفيد أن الله -سبحانه- يريد الاستقامة كما أمر بلا غلو ولا مبالغة تحيل هذا الدين من يسر إلى عسر، ومن رحمة إلى عنت ومشقة، وهذه الآية هي ما شاب له رأس المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
3- ومن أساليب الدعوة إلى لزوم الصراط المستقيم ما ورد من التحذير من تعدي الحدود، والأمر بلزومها، (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة:229].
والحدود هي النهايات لكل ما يجوز من الأمور المباحة، المأمور بها وغير المأمور بها، وتَعَدِّيها هو تجاوُزُها وعدم الوقوف عليها، وهذا التَعَدِّي هو الهدف الذي يسعى إليه الشيطان الذي قال: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف:16]؛ إذ إن مجمل ما يريده تحقيق أحد الانحرافين: الغلو أو التقصير.
إِنَّه (ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو؛ ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدي بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين؛ فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد).
4- ومن صور رسم المنهج الحق والتحذير من مخالفته ما ورد من النهي عن الغلو وتوجيه الخطاب لأهل الكتاب على وجه الخصوص: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) [النساء:171]، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة:77].
وهذه النصوص، وإن كانت موجهة لأهل الكتاب ابتداءً، فإن المراد منها موعظة هذه الأمة لتجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة، وذلك ما حذر منه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "وإياكم والغلوَّ في الدين! فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال.
ولقد وردت أحاديثُ كثيرةٌ عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يحذِّر فيها أمته من الغلو في الدين، والتشديد على النفس، ويأمرهم فيها بالتوسط والاعتدال، والتيسير والقصد، بل كان -صلى الله عليه وسلم- يغضب غضباً شديداً لما يراه أو يسمعه من مواقف بعض أصحابه الذين يلزمون أنفسهم ما لا يلزمها، أو يحملونها ما لا تطيق.
ورغم أن تلك تصرفات فردية شخصية إلا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليسمح لمثل تلك الأفكار الغالية، والآراء المتطرفة أن تتسلل إلى عقول أصحابه وقلوبهم؛ لما يعرفه -صلى الله عليه وسلم- من آثارها المهلكة، ونتائجها المضنية، فكان يبادر إلى اقتلاعها من جذورها، ونسفها من أساسها، ويرسم في الوقت نفسه المنهج الأسمى، والطريق الأزكى.
ومن ذلك أنه جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً؛ فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إِنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" أخرجه البخاري ومسلم.
وأحاديثه -صلى الله عليه وسلم- ومواقفه في هذا الأمر كثيرة جداً، ومنها ما يلي:
1/ عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟" قالوا: هذا حبل لزينب؛ فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا! حُلُّوه، لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد" أخرجه البخاري. وفي هذا الحديث -كما قال الحافظ ابن حجر- الحثُّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق فيها.
2/ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مُرْهُ فلْيَتَكلَّمْ، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه" أخرجه البخاري. قال الحافظ: وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة كالمشي حافياً، والجلوس في الشمس، ليس هو من طاعة الله، فلا ينعقد به النذر.
3/ عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل وعندها امرأة، قال: "مَن هذه؟"، قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: "مَهْ! عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملُّ الله حتى تملُّوا!"، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه. أخرجه البخاري ومسلم. قال ابن حجر: عليكم بما تطيقون: أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق.
ولقد وردت أحاديث تبين مآل مَن غلا، وأنه صائر إلى الهلاك، بل يرد ذلك مكرراً ثلاث مرات في حديث واحد، مما يفيد عظم الأمر وخطره، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً. أخرجه مسلم. قال النووي: هلك المتنطعون، أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
هذا، وإن التشديد على النفس ضرب من ضروب الغلو، بينت السنة أن عاقبة صاحبه إلى الانقطاع، وأنه ما مِن مُشَادٍّ لهذا الدين إلا ويغلب وينقطع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة"، وزاد في رواية: "والقصدَ القصدَ تبلغوا!" أخرجه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق، إلا عجز وانقطع فيغلب... والتسديد: العمل بالسداد، وهو القصد والتوسط في العبادة، فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه.
إن الاستقامة على شرع الله نعمة كبرى، وهبة عظمى.. وإن الله تعالى قد أخبر أنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، وأنه ما جعل علينا في الدين من حرج، فمتى ما كان الدين عنتاً ومشقة وخوفاً وإرهاباً وتطرفاً وقتلاً وتهوراً، فإن ذلك دليل على الخروج عن الاستقامة إلى الشطط والإفراط والغلو الذي مصير أربابه إلى الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة.
وإنني أدعوكم إلى تأمل هذه الآيات البديعة التي تبهج النفس، وتسعد القلب، وترسم الروعة والجمال والجلال، إذْ تتحدث عن الاستقامة وتربطها بالخلق الحسن، والأدب الجم، والعمل الصالح.
يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:30-35].
وها هو المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي كانت حياته القدوة العظمى في الاستقامة والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وتمثل هذه الآيات روحاً ونصاً.
وها هو يوصي بنفس مضمون هذه الآية، حيث يقول له معاذ في أحد أسفاره: أوصني. فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "اعبد الله ولا تشرك به شيئاً"، فيقول: يا رسول الله! زدني. فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أسَأْتَ فأَحْسِنْ"، فيقول: يا رسول الله زد. فيقول له -صلى الله عليه وسلم-: "استقم، وَلْتُحَسِّنْ خُلُقَكَ" أخرجه الحاكم وصححه ابن حبان.
وها هو -صلى الله عليه وسلم- يحرص على الحرص على رسم المنهج القويم في نفوس أصحابه بكل سبيل وبشتى الأساليب، حتى استخدم في ذلك الوسيلة التعليمية بأن خط خطاً لأصحابه ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذه سبل متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، " ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام:153]" أخرجه أحمد وصححه ابن حبان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم