عناصر الخطبة
1/الرد على وصم الإسلام بالظلم وعدم العدل 2/شهادة المنصفين من غير المسلمين على عدل الإسلام 3/صور ناصعة في عدل الإسلام والمسلمين 4/حقيقة العدل والفهم الصحيح لهاقتباس
المقرر عند المسلمين والمنصفين من غير المسلمين: أن الإسلام هو عين الإنصاف والعدل، دين السماح والبذل، دين العفو والرحمة، دين التعاون والرأفة، وليرجعوا إلى التاريخ؛ ليعلموا من العادل، ومن الظالم، ومن المنتهي، ومن المعتدي؟ فالله -عز وجل- ما أرسل الرسل إلا ليقيم العدل في الأرض، ويحارب الـ...
الخطبة الأولى:
ما تزال الشُّبَه المعادية لوسطية الإسلام، تعمي أعين الأعداء، وتُصِم آذانهم، وهم يبحثون عن مغمز في شريعة الله يتشبثون به؛ ليظهروا للناس أن الإسلام دين الفوضى والتخلف، دين الرجعية والظلامية، دين التطرف والإرهاب: (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)[البقرة: 109].
وحبا في المخالفة والتمايز: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[النمل: 14].
والمقرر عند المسلمين والمنصفين من غير المسلمين: أن الإسلام هو عين الإنصاف والعدل، دين السماح والبذل، دين العفو والرحمة، دين التعاون والرأفة، وليرجعوا إلى التاريخ؛ ليعلموا من العادل، ومن الظالم، ومن المنتهي، ومن المعتدي؟
فالله -عز وجل- ما أرسل الرسل إلا ليقيم العدل في الأرض، ويحارب الظلم والجور؛ قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد: 25].
قال ابن كثير: "أي: بالحق والعدل".
وقال أبو السعود: "وقيلَ: أُريدَ به العدلُ؛ ليقامَ بهِ السياسةُ، ويُدفعَ به العُدوانُ".
لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- مثالًا للعدل المطلق، لا يغضب إلا لله، وإن استفزه المستفزون، فقد قسم ذَاتَ يَوْمٍ قَسْمًا، فَقَالَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ، فقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَيْلَكَ، مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ"[البخاري].
ومع ذلك لم يعنفه، ولم يسبه، ولم يشتمه، وإنما أزال شبهة علقت بذهنه.
عنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ أَعْرَابي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ -أُضيِّق عليك- إِلاَّ قَضَيْتَنِي، فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: وَيْحَكَ، تَدْرِى مَنْ تُكَلِّمُ؟ قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "هَلاَّ مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ".
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَقَالَ لَهَا: "إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا، حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ فَنَقْضِيَكِ" فَقَالَتْ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَقْرَضَتْهُ، فَقَضَى الأَعْرَابيَّ وَأَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إِنَّهُ لاَ قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ -غير منزعج-"[صحيح سنن ابن ماجة].
فهل يقال بعد هذا: إن الإسلام دين الظلم، ودين الحيف؟
لقد نهانا ديننا: أن نحابي أحدًا ولو كان من أقرب الأقربين، ما دام في المحاباة ظلم للغير، وانتهاك لحقه، هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترفع إليه المرأة المخزومية التي سرقت، وهي ذات حسب ونسبٍ، ويُوَسطون أسامة بن زيد حِب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليشفع عنده، ليعفو عنها من إقامة الحد عليها، فكيف كان جوابه؟
قال لأسامة: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟".
ولم يكتف بذلك حتى قام في الناس خطيبًا؛ لتصل الرسالة إلى الجميع، فقال: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[متفق عليه].
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[النساء: 135].
قال ابن جرير: "قوموا بالقسط ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غني فتجوروا، فإن الله سوَّى بين حكم الغني والفقير".
حتى اليهود الذين يتزعمون اليوم عداوة الإسلام والمسلمين، كانوا يتحاكمون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ليقضي بينهم، لما علموه عنه من العدل المطلق في الحكم.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[المائدة: 42].
قَالَ: كَانَ بَنُو النَّضِيرِ إِذَا قَتَلُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِذَا قَتَلَ بَنُو قُرَيْظَةَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَدَّوْا إِلَيْهِمُ الدِّيَةَ كَامِلَةً -وذلك لأن بني النضير كانوا أشرف من بني قريظة-، فَسَوَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُمْ.[صحيح أبي داود].
وأورد الألوسي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن منافقًا خاصم يهوديًّا، فدعاه اليهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه كان يقضي بالحق، ولا يلتفت إلى الرِّشوة، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف؛ لأنه كان شديد الرغبة إلى الرشوة، واليهودي كان محقًّا، والمنافق كان مبطلًا، ثم أصرَّ اليهودي على قوله، فاحتكما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحكم لليهودي".
ولقد أوصى الله -تعالى- نبيه بألا يتجاوز العدل إلى الظلم، ولو كان المحكوم له غير مسلم؛ قال تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة: 42].
قال ابن سعدي: "حتى ولو كانوا ظلمة أعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم".
وقال تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) [النساء: 58].
قال ابن سعدي: "وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء، والأموال، والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والفاجر والولي، والعدو".
وتمثل هذا المنهج أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كما فعل ابن رواحة مع اليهود لَمَّا بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر لِيَخْرِصَ -يقدر- نخلهم، فجمعوا له حُليًّا من حُلي نسائهم، فقالوا له: "هذا لك وخفف عنا، وتجاوز في القسم"، فقال عبدالله بن رواحة: "يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف –أجور- عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة، فإنها سُحت، وإنا لا نأكلها"، فقالوا: "بهذا قامت السموات والأرض"[رواه مالك في الموطأ، وصححه في غاية المرام].
وفي الموطأ: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنهما- اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ".
هذه الوقائع العادلة الكثيرة، هي التي دفعت أحد المستشرقين يدعى "توماس أرلوند" إلى أن يقول: "كان المسلمون على خلاف غيرهم؛ إذ يظهر لنا أنهم لم يأْلوا جُهدًا في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس".
هذا هو عدل الإسلام، وهذه هي وسطية الإسلام التي تلقى اليوم التشويه والتحريف.
وإذا قضيت فلا ارتيابَ كأنما *** جاء الخصومَ من السماء قضاءُ
الخطبة الثانية:
إن العدل الحقيقي ينطلق من النفس أولاً، بأن تطهر من الحسد والأحقاد، وتفعم بحب الآخر والإحسان إليه، وفقًا لهدي الشريعة؛ إذ الظلم من ظلام النفس والقلب؛ قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب، ولو استنار بنور الهدى لاعتبر".
وقد أورد صاحب "الحلية": أن بعض عمال عمر بن عبدالعزيز كتب إليه: "أما بعدُ: فإن مدينتنا قد خرِبت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالاً يَرُمُّها به، فعل".
فكتب إليه عمر: "أمَّا بعدُ، فقد فهمتُ كتابك، وما ذكرتَ أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأتَ كتابي هذا، فحصِّنها بالعدل، ونقِّ طرقها من الظلم، فإنه مَرَمَّتُها، والسلام".
هذا هو فَهْم عمر بن عبدالعزيز الحقيقي لمعنى الحضارة والتمدن، فلا معنى لمدينة نقية الطرقات، جميلة البنايات، شاهقة العمارات، وأوكار الظلم والفساد تنخر في جنباتها؛ من سرقة، ورشوة، وتزوير، واقتطاع أراضي الناس بدون وجه حق، وسيادة منطق الغلبة للأقوى، لا لصاحب الحق، اعتمادًا على المنصب والجاه، وشراء الذِّمم بالمال؛ قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "إنما أهلك من كان قبلكم، أنهم منعوا الحق حتى اشتُري، وبسطوا الجَور حتى افْتُديَ".
وقال عمر بن عبدالعزيز: "إذا دعتك قُدرتك على ظلم الناس، فاذكر قدرة الله -تعالى- عليك".
وتأمَّل في الظالمين عبر التاريخ، كيف كان مصيرهم؟
وقال ابن حزم -رحمه الله-: "من أراد الإنصاف، فَلْيَتَوَهَّمْ نَفْسَهُ مكانَ خصمه؛ فإنه يلوح له وجهُ تَعَسُّفِهِ".
ارْضَ للناس جميعًا *** مثلَ ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعًا *** كلهم أبناء جِنسك
فلهم نفسٌ كنفسك *** ولهم حِسٌّ كحِسِّك
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم