اقتباس
هذا، وإن الأصل في المؤمن أن يحيا على هذه الأرض ومنتهى غاياته وأقصى أمانيه ورأس أهدافه هو إقامة حكم الله في الأرض، لا تقر له عين ولا يغمض له جفن حتى يرى القرآن والسنة ولهما السيادة في جميع الشئون وفوق جميع البشر وفي كل أركان الأرض، وحتى يرى حكم الله -عز وجل- قائم أولًا في القلوب ثم في البيوت والأُسَر ثم في المجتمعات والدول والقارات...
من الذي خلق الخلق؟ أليس الله! إذن ما من أحد من حقه أن يشرِّع للناس إلا هو وحده -سبحانه وتعالى-، فحكمه هو وحده -عز وجل- المستحق للسمع والطاعة المطلقة، أما حكم سواه فيُسمع له ويطاع ما وافق شرع الله، وينبذ ويعصى إذا ما خالفه في صغير أو كبير، فما كان لأحد أن يشرع للخلق من عند نفسه مخالفًا شريعة الخالق -سبحانه-، فإنه لم يخلق الناس حتى ينصِّب نفسه إلهًا لهم؛ فإن الحاكمية لمن خلق ولمن برأ ولمن يرزق ويحيي ويميت وحده لا شريك له، فإن حَكَمَ أحد في مُلك الله بغير شرع الله، أفسد الله -تعالى- عليه دنياه وأخراه.
هذه الفقرة السابقة قد أجملنا فيها ما حقه أن يُفَصَّل، فإليك التفصيل:
فأول ما قلنا: "ما من أحد من حقه أن يشرِّع للناس إلا الله وحده"؛ وذلك لأنه هو الذي خلَق فهو الذي يحكم، قال -تعالى-: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف: 54]، يقول الخازن: "يعني: له الخلق لأنه خلقهم، وله أن يأمر فيهم بما أراد، وله أن يحكم فيهم بما شاء" (تفسير الخازن)، وقال ابن كثير: "فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء" (تفسير ابن كثير)...
وقد تتابعت وتواترت الآيات القرآنية التي تؤكد على انفراد الله -عز وجل- بالحاكمية واختصاصه -سبحانه- وحده بها، من ذلك قوله -تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام: 57] والتي قد تكررت في القرآن بنصها ثلاث مرات، وقوله -سبحانه-: (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ) [الأنعام: 62]، وقوله -عز من قائل-: (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 70]، ومرة أخرى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88]، وقوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم: 4]، وليس آخرها قوله -جل وعلا-: (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) [غافر: 12]...
***
وأما ثاني الأمور فقولنا: "أما حكم سواه فيُسمع له ويطاع ما وافق شرع الله، وينبذ ويعصى إذا ما خالفه"، نعم؛ إن طاعة غير الله تابعة لطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لذا قيل في قوله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]: لم يكرر لفظة: "أطيعوا" مع أولى الأمر لأن طاعتهم متوقفة على موافقة أوامرهم لحكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لذا لم يقل: "وأطيعوا أولى الأمر" لأنها ليست طاعة مستقلة بل مشروطة بألا تكون معصية لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد اختلفوا؛ من المقصود بـ"أولي الأمر" فقال ابن عباس وجابر: "هم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون معالم الناس دينهم"، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، وقال أبو هريرة: "الأمراء والولاة" (تفسير الخازن)، فحتى كلام فقهاء الشريعة وعلماء الدين أنفسهم مردود عليهم إن خالف حكم الله -تعالى-، فما بالك بمن دونهم! وصلى اللهم وسلم على من وضع القاعدة التي تقول: " لا طاعة لمخلوق في معصية الله" (الطبراني في الأوسط).
***
وأما ثالثها فقولنا: "فما كان لأحد أن يشرع للخلق من عند نفسه مخالفًا شريعة الخالق -سبحانه-، فإنه لم يخلق الناس حتى ينصِّب نفسه إلهًا لهم"؛ فهل من شرًّع للناس غير ما أنزل الله يكون قد جعل من نفسه إلهًا؟!... ونجيب بما قاله الشيخ أبو إسحاق الحويني: "توحيد الحاكمية من أخص خصائص توحيد الألوهية"، وعليه: فمن صرَّف من ذلك شيئًا إلى غير الله فقد أشركه مع الله في ألوهيته -والعياذ بالله-.
ومن أطاع المشرِّع بغير ما أنزل الله في حكمه المخالف لشرع الله -تعالى-، فقد عبَده من دون الله -تعالى الله-، ودليلنا على هذه ما رواه عدي بن حاتم حين قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك"، فطرحته فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة: 31] حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟" قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم" (الطبراني في الكبير)، فكل من أطاع أحدًا في حكم مضاد لحكم الله -تعالى- فقد عَبَدَه واتخذه ربًا من دون الله -تنزه الله-.
***
ورابع الأمور قولهم: "فإن حَكَمَ أحد في مُلك الله بغير شرع الله، أفسد الله -تعالى- عليه دنياه وأخراه"، وهذي من سنن الله -تعالى- في الأرض؛ أن البوار والضياع والخراب والخسران في الدنيا والآخرة على من خالف شرع الله وعصى أوامره، فأما في الدنيا فالهلاك العاجل أو الآجل وأما في الآخرة فالعذاب الشديد لكل من عتى عن أوامر الله -عز وجل-، فهؤلاء ثمود لما خالفوا هلكوا، قال الله -تعالى-: (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ) [الذاريات: 43-45].
وقد حذَّر الله -جل وعلا- وأنذر كل من يخالف أوامر نبيه -صلى الله عليه وسلم- قائلًا -عز من قائل-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]، وفي الجملة: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) [الطلاق: 8-9]...
***
هذا، وإن الأصل في المؤمن أن يحيا على هذه الأرض ومنتهى غاياته وأقصى أمانيه ورأس أهدافه هو إقامة حكم الله في الأرض، لا تقر له عين ولا يغمض له جفن حتى يرى القرآن والسنة ولهما السيادة في جميع الشئون وفوق جميع البشر وفي كل أركان الأرض، وحتى يرى حكم الله -عز وجل- قائم أولًا في القلوب ثم في البيوت والأُسَر ثم في المجتمعات والدول والقارات... اللهم فأقر أعيننا بهذا.
وسعيًا وراء هذا الهدف المنشود، وأخذًا بأسباب تحقيقه فقد جمعنا هنا بعض الخطب الجليلة التي تُعَرِّف بالحاكمية وفداحة إغفالها وجرم تضييعها وطرق وفضائل تطبيقها إلى آخر ذلك مما يخص الحاكمية من أحكام، فإليك هي:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم