عناصر الخطبة
1/إثبات اسم الله الحكم ومعناه 2/الحكم لله في الدنيا والآخرة 3/مقتضيات الإيمان بأن الله هو الحكم ومستلزماته 4/مفاسد الإعراض عن حكم الله 5/وجوب التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله 6/ثمرات الإيمان بأن الله هو الحكماقتباس
إذا رأيت الوحي العظيم وسنة الرسول الكريم قد زحزحت وقوانين الطواغيت قد أقبلت؛ فبطن الأرض خير من ظهرها، وقٌلَلُ الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس. اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وتكدرت الحياة، وبكى ضوء النهار، وظلمة الليل، من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، و...
الخطبة الأولى:
الله -جل وعلا- هو الحكم، ومن أسماءه: "الحكم" ولا يجوز لأحد أن يتسمى بهذا الاسم؛ لأن أحد الصحابة كان يكنى بأبي الحكم، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله هو الحكم، وإليه الحكم" ثم قال له: "من أكبر أولادك؟" فقال: شريح، فقال: "أنت أبو شريح" [رواه أبو داوود (4955) والنسائي (8/226) عن شريح عن أبيه هانئ].
ومعنى الحكم: أي الذي له الحكم، وأصل الحكم منع الفساد والظلم، ونشر العدل والخير، وسمي الحاكم حاكما؛ لأنه يمنع الخصمين من التظالم.
إخوة الإيمان: الله -جل وعلا- هو الحكم الذي له الحكم في الدنيا والآخرة؛ ففي هذه الدار: لا يخرج الخلق عن أحكامه القدرية سبحانه؛ فما حكم به قدرا نفذ من غير مانع ولا منازع، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ولا يخرج المكلفون أيضا عن أحكامه الشرعية سبحانه، والتي فيها صلاح الأمور وكمالها.
وفي الآخرة: لا يحكم على العباد إلا هو، ولا يبقى لأحد قول ولا حكم، حتى الشفاعات كلها منطوية تحت إراداته وإذنه، ولا يشفع عنده أحد إلا إذا أذن له.
وأحكامه سبحانه كلها بالحكمة والعدل، فأوامره كلها عدل؛ لأنها منافع ومصالح، فهي عدل ممزوجة بالرحمة، ونواهيه كلها عدل لكونه لا ينهى إلا عن الشرور والأضرار، وهي أيضا مقرونة برحمته وحكمته ومجازاته للعباد بأعمالهم.
والله -جل وعلا- لا يظلم مثقال ذرة، ولا يُحمّل أحدا وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه.
فإذا علمت بأن الله هو الحكم، وأن الله -سبحانه- هو الذي يحكم عليك في الآخرة، فلا تخف من الظلم أبدا، وإنما خف من خطاياك: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)[طـه: 111-112].
وإذا علمت -يا عبد الله- بأن من أسماء الله "الحكم"، فاعلم أن الحكم لله وحده لا شريك له في حكمه؛ كما لا شريك له في عبادته: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)[الأنعام: 57]. (وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 70].
فلا يجوز الحكم إلا بحكم الله، لا بحكم القوانين الوضعية، ولا بحكم الأعراف والقبائل، ولا غيرها، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، فكل تشريع من غيره باطل: (أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)[الأنعام: 114].
يعني ليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه؛ لأنه لا حكم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه؛ كما قاله ابن جرير -رحمه الله-[تفسير الطبري (9/506)].
وكيف يؤخذ بتشريع قوانين من صنع بشر مخلوقين، فهل هؤلاء البشر يملكون خلق السموات والأرض، أو يملكون خلق الإنسان حتى يشرعوا هذه القوانين المضادة لحكم الله -نعوذ بالله-، أو يعلمون غيب السماوات والأرض، هل في هؤلاء البشر المشرعين إله حتى يشرع شرعا يخالف فيه شرع الله -سبحانه-، فالمؤمن يجب عليه أن يعرف صفات من يستحق أن يشرع، ويحلل ويحرم، ولا يقبل تشريعات مخالفة لشريعة الله، حتى لو كان المخالف لشريعة الله مسلم فضلا عن قبول قوانين وضعية من الكفار، فسبحانه -جل وعلا- أن يكون له شريك في حكمه، أو عبادته، أو ملكه: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) [التين: 8] [انظر للفائدة: ما كتبه الشيخ الجليل محمد الشنقيطي -رحمه الله- في كتابه أضواء البيان (7/163)].
إخوة الإيمان: لقد أعرض البعض عن تحكيم كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعدلوا إلى القوانين الوضعية؛ فعرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعم ذلك الكثير؛ حتى ربى فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرا، فقامت عندهم البدع مقام السنن، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والظلم مقام العدل.
فإذا رأيت الوحي العظيم وسنة الرسول الكريم قد زحزحت وقوانين الطواغيت قد أقبلت؛ فبطن الأرض خير من ظهرها، وقٌلَلُ الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس.
اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وتكدرت الحياة، وبكى ضوء النهار، وظلمة الليل، من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، وشكا الكرامُ الكاتبون من كثرة الفواحش، وغلبة المنكرات والقبائح" [انظر: كلام مشابه لهذا عند ابن القيم في كتابه الفوائد، ص48)].
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].
فالواجب على المؤمنين جميعا: أن يتبعوا حكم الله -جل وعلا-، وأن يعملوا به، وأن يتحاكموا إلى حكمه سبحانه، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب: 36].
وقال سبحانه: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
وإذا علمت بأن الله -سبحانه- هو الحكم، فاعلم أن الله -سبحانه- يحكم ما يريد وما يشاء، وله الحكمة البالغة: (إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة: 1].
وليس لأحد أن يراجع الله في حكمه كما يراجع الناس بعضهم البعض في أحكامهم: (وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41].
وإذا علمت بأن الله هو الحكم، فاعلم أن اتباعك لما حكم الله به من الأحكام الشرعية فيه سعادتك في الدنيا والآخرة، وما قضاه وقدره عليك من أمور الدنيا، فعليك بالصبر والرضا بقضائه، فالله -سبحانه- حكيم في أوامره ونواهيه، حكيم في ما قضاه وقدره.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
وإذا علمت بأن الله -سبحانه- من أسماءه: "الحكم" وعرفت معنى هذا الاسم العظيم؛ أثمر ذلك في قلبك الخوف من الله، والالتزام بشريعته، والقيام بما يرضيه، حتى إذا جاء يوم القيامة تكون من الفائزين.
وأثمر لك ذلك أيضا: البعد عن مظالم العباد، وعدم الاعتداء على حقوقهم؛ لأن وراء ذلك يوم الفصل والقضاء حيث يحكم الله بحكمه ولا يُظلم أحد: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)[النمل: 78].
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء: 47].
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه، أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" [رواه البخاري برقم (2449)].
وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "إذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله -تعالى- عليك، ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك"[سير أعلام النبلاء (5/131)].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم