اقتباس
التوسط في كل شأن خير، فالضحك في بعضه جائز، لكن الإكثار منه مكروه، والسنة والأفضل هو التبسم، يقول النووي: وفيه "جواز الضحك والأفضل الاقتصار على التبسم كما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- في عامة أوقاته، قالوا: ويكره إكثار الضحك وهو في أهل المراتب والعلم أقبح...
هي مقولة نبوية تلخص موقف الإسلام من التبسم والتفاؤل والسعة؛ حيث تقول: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"(رواه ابن حبان)، فليست الابتسامة في الإسلام مباحة فقط، ولا مستحبة فقط، بل هي صدقة وعمل صالح يؤجر عليها صاحبها يوم القيامة، ولعل هذا يفسِّر ما رواه أبو ذر -رضي الله عنه- حين قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلـم-: "لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق"(رواه مسلم)؛ فإنه أجر كبير على عمل صغير لا يكلف صاحبه مالًا ولا جهدًا يُذكر.
وفي التبسم للمسلمين إشاعة المودة والحب والتآلف بين النفوس والقلوب، فهذا جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- لا زال يذكر تبسم النبي -صلى الله عليه وسلـم- له، فيقول: "ما حجبني النبي -صلى الله عليه وسلـم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي"(متفق عليه)، ولم يكن هذا هو حال النبي -صلى الله عليه وسلـم- مع جرير وحده، بل يشهد عبد الله بن الحارث بن جزء فيقول: "ما رأيت أحدًا كان أكثر تبسمًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-"(رواه أحمد).
وصدق الشاعر إذ قال:
بني إن البر شيء هين *** وجه طليق ولسان لين
بل صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-: "لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"(رواه البزار في مسنده).
***
وإن أول الرابحين من البسمة هم أصحابها؛ فإن بعض أرباب علم النفس والاجتماع يقولون: إن مجرد رسم بسمة على الوجه يخلق داخل النفس شعورًا بالسعادة، فلست تُسعد بابتسامتك من حولك فقط، بل تُسعد بها نفسك قبلهم... فأول صدقة تتصدق بها بابتسامتك هي على نفسك.
وإن العبوس الدائم وتقطيب الحاجبين اللازم والحزن المطبق والتجهم المستمر ليس من الإسلام بل الدين منه بريء... ولا يتحاذقن أحد فيقول: وكيف أتبسم وأنا أحمل من هموم الدعوة ما أحمل! وكيف أتبسم وخلفي يوم القيامة وفيه من الأهوال ما فيه! وكيف أبتسم والدنيا دار غربة للمؤمنين بل هي سجن لهم!...
ولهذا وأمثاله نقول: أفأنت تحمل من هموم الدعوة ما لم يكن يحمله رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-؟! أفأنت تدرك من أحوال الدنيا والآخرة أكثر مما كان يعلمه رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-؟!... وأذكِّرك وأنذرك وأحذِّرك بقول الله -عز وجل-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21].
وما أشبه حال هذا بحال من روت لنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حاله قائلة: صنع النبي -صلى الله عليه وسلـم- شيئًا ترخص فيه، وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلـم-، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية"(متفق عليه).
***
ومع أن للبسمة كل ما ذكرنا من فضائل وأكثر، فإن المبالغة في كل أمر شر، فعن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-: "لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب"(رواه ابن ماجه).
ويتساءل متسائل: أليس كان النبي -صلى الله عليه وسلـم- يتبسم للجميع، وكان -صلى الله عليه وسلـم- أكثر الناس تبسمًا؟! وهنا يوضح ابن القيم -رحمه الله- الأمر فيقول: "وكان جل ضحكه التبسم، بل كله التبسم، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه"(زاد المعاد، لابن القيم)، تقول أم المؤمنين عائشة، زوج النبي -صلى الله عليه وسلـم-: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- مستجمعًا ضاحكًا، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم"(رواه مسلم).
وكيف يكثر -صلى الله عليه وسلـم- من الضحك وهو القائل: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا"، يقول أنس: فغطى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- وجوههم لهم خنين(رواه البخاري).
والحق: أن التوسط في كل شأن خير، فالضحك في بعضه جائز، لكن الإكثار منه مكروه، والسنة والأفضل هو التبسم، يقول النووي: وفيه "جواز الضحك والأفضل الاقتصار على التبسم كما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- في عامة أوقاته، قالوا: ويكره إكثار الضحك وهو في أهل المراتب والعلم أقبح، والله أعلم".
وأما عن الفرق بين الضحك والتبسم، فقد قال أهل اللغة: "التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك"(فتح الباري، لابن حجر).
***
وقد جمعنا ها هنا عددًا من خطب خطبائنا المفوهين تؤصل الأمر الذي طرحناه، وتفصِّل منه ما أجملناه، وتوضح ما أغفلناه أو نسيناه، فإليك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم