اقتباس
وإن العاقل اللبيب ليتملكه العجب حين يرى من الناس من يُفني عمره ويُضيِّع أيامه وسنونه على كل أمر تافه وحقير؛ من فضائيات تافهة ورحلات ماجنة وسهر على المعاصي وسمر غير مجد وتجوال لغير هدف... ثم هو لا يشعر ولا يستشعر أنه يقضي على نفسه ويقرِّبها من حتفها...
يا ابن آدم ما أنت إلا مجموعة من السنين والأشهر والأيام والساعات والدقائق... فإذا أنهيتها فقد انتهيتَ... يقول أبو الدرداء: "ابن آدم: طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل تكون قبرك، ابن آدم: إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك، ابن آدم: إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك"(رواه البيهقي في الزهد الكبير)... وفي وجهة نظر الغزالي أنت عدد محدود من الأنفاس؛ شهيق وزفير، فإذا استهلكتها فقد حان موعد رحيلك، فتسمعه يقول: "الأنفاس معدودة، فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك"(الإحياء).
وهذا الحسن البصري يجعل للأيام لسانًا فصيحًا يتكلم ويحذِّر الناس من تضييع الأعمار، فيقول: "ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم ويقول: يا أيها الناس إني يوم جديد، وأنا على ما يعمل في شهيد، وإني لو قد أفلت شمسي لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة"(حفظ العمر، لابن الجوزي).
***
فما الحل إذن؟!... أقصد: إن كانت الآجال محدودة والأنفاس معدودة والأعمار قصيرة ولها انقضاء، فما العمل؟ وأجيب: الحل أن تغتنمها وتنتهزها وتستغلها ولا تضيع منها لحظة ولا أقل ولا أكثر... هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- حين قال: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"(رواه الحاكم في مستدركه).
وإن العاقل اللبيب ليتملكه العجب حين يرى من الناس من يُفني عمره ويُضيِّع أيامه وسنونه على كل أمر تافه وحقير؛ من فضائيات تافهة ورحلات ماجنة وسهر على المعاصي وسمر غير مجد وتجوال لغير هدف... ثم هو لا يشعر ولا يستشعر أنه يقضي على نفسه ويقرِّبها من حتفها! ثم هو لا يأسى ولا يندم ولا يستحسر على أيام ولت ولن تعود أبدًا، يقول أبو بكر بن عياش: "أحدهم لو سقط منه درهم لظل يومه يقول: إنا لله!! ذهب درهمي، وهو يذهب يومه؛ ولا يقول: ذهب يومي ما عملت فيه"(حفظ العمر، لابن الجوزي).
***
ولننظر نظرة سريعة خاطفة إلى أقوام كانوا يعرفون قيمة الأعمار والأوقات، فيستغلونها أحسن استغلال ويقدمون لآخرتهم... فهذا عبد الله بن عمر "كان له مهراس فيه ماء، فيصلي ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش فيغفي إغفاء الطير ثم يقوم فيتوضأ، ثم يصلي، ثم يرجع إلى فراشه، فيغفي إغفاء الطير، ثم يثب فيتوضأ، ثم يصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس مرات"(المصدر السابق).
وكان عامر بن عبد قيس "يصلي كل يوم ألف ركعة، ولقيه رجل، فقال: أكلمك كلمة، فقال: "أمسك الشمس حتى أكلمك".
وقال لرجل سأله: "عجل؛ فإني مبادر"، قال: وما الذي تبادر؟ قال: "خروج روحي".
وقال عثمان الباقلاني: "أبغض الأشياء إلى وقت إفطاري؛ لأني أشتغل بالأكل عن الذكر".
وكان داود الطائي -رحمه الله- يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز، فقيل له في ذلك، فقال: "بين أكل الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية""( تنبيه النائم، لابن الجوزي).
وكان عامر بن عبد قيس إذا صلى الصبح تنحى في ناحية المسجد فقال: من أقرئه؟ فيأتيه قوم، فيقرئهم، حتى إذا طلعت الشمس، وأمكنت الصلاة قام يصلي إلى أن ينتصف النهار، ثم يرجع إلى منزله فيقيل، ثم يرجع إلى المسجد إذا زالت الشمس، فيصلي حتى يصلي العصر، فإذا صلى العصر تنحى إلى ناحية المسجد ثم قال: من أقرئه؟ فيأتيه قوم فيقرئهم، حتى إذا غربت الشمس صلى المغرب، ثم يصلي حتى يصلي العشاء، ثم يرجع إلى منزله فيتناول أحد رغيفيه فيأكله، ثم يهجع هجعة خفيفة، ثم يقوم، فإذا أسحر تناول رغيفه الآخر، فيأكله، ثم يشرب عليه شربة من ماء، ثم يخرج إلى المسجد"(حفظ العمر، لابن الجوزي).
***
وواخوفاه من يوم يأتي فتتقطع القلوب حسرة وندمًا على ما فرطت وضيَّعت من أعمارها، حينها يتمنى هذا المضيع -ولات حين مندم- أن يُزاد في عمره سنة أو يومًا أو حتى ساعة ليعوض ما ضاع من عمره: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 99-100]، وعندها يتفطر فؤاده وهو يردد تحسرًا وكمدًا: (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الفجر: 24].
فهي صيحة نذير ونداء أخير: ألا تضيعوا أعماركم ولا تقتلوا أوقاتكم، وحافظوا على ساعاتكم ودقائقكم، وقدموا لآخرتكم، ولا تلهكم ملذات دنياكم فتندموا حين لا ينفع الندم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون: 9-11].
وكأن ابن مسعود يدور في فلك هذا التحذير القرآني حين يقول: "إنكم في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرًا يوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًا يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع ما زرع"(حفظ الأعمار، لابن الجوزي).
***
وحرصًا منا في ملتقى الخطباء على أعمارنا وعلى أعمار المسلمين، جمعنا ها هنا عددًا من خطب الخطباء المتيقظين، الذين قد نفضوا الغفلة وأدركوا قيمة الأعمار، فهم يصرخون في الناس: إياكم وتضييع الأوقات؛ فإن الوقت هو العمر! إياكم أن تغركم الدنيا بزخرفها وبهجتها الزائفة فتخرجوا منها بغير زاد! ألا فاغتنموا واستبقوا وانتهزوا حياتكم قبل موتكم... وفيما يلي شيء من خطبهم ننقل من خلالها صيحاتهم تلك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم