اقتباس
فالعيب ليس في الخلاف؛ فإنه فطرة وجبلة وطبيعة، وقد خلقه الله -عز وجل- لغاية وحكمة، وإنما المشكلة كلها تكمن في فهم طبيعة الخلاف وفي تقبل الخلاف وفي إدارة الخلاف والتعامل معه.. لذا تجد العلماء والفضلاء قد نظَّموا الخلاف ووضعوا لها آدابًا تجب مراعاتها؛ ليكون الخلاف صحيًا بنَّاءً مثمرًا، ولكي لا يتسبب خلافنا في الضغينة والبغضاء وما لا تُحمد عقباه...
الخلاف والاختلاف من طبيعة البشر، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[هود: 118ـــ 119]، قال الحسن ومقاتل وعطاء: ""الإشارة للاختلاف"، أي: وللاختلاف خلقهم"(تفسير القرطبي)، ويقول الشاطبي حول هذه الآية: "فتأملوا رحمكم الله، كيف صار الاتفاق محالًا في العادة، ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به"(الاعتصام، للشاطبي).
بل الخلاف والاختلاف طبيعة الكون كله وسجيته وسنة من سننه، فكل ما على وجه هذه الأرض مختلف واختلافه آية: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)[النحل: 13]، والعسل الذي يخرج من بطون النحل مختلف: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ)[النحل: 69]، والنباتات والجمادات والأحياء كلها مختلفات: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ)[فاطر: 27ـــ 28].
والبشر مختلفون: (وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)[الروم: 22]، والجن كذلك مختلفون: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)[الجن: 11]، بل إن الملائكة أنفسهم كذلك يختلفون؛ فقد سأل الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وسلم-: "فقال: يا محمد، فقلت: لبيك وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الدرجات والكفارات.."(رواه الترمذي، وصححه الألباني)، واختصمت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في قاتل التسعة وتسعة نفسًا...
ولقد اختلف سادات الصحابة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واختلف التابعون والفقهاء والصالحون... يقول الإمام أحمد بن حنبل: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا"(سير أعلام النبلاء للذهبي).
ولو ظللنا نعدد الخلافات والاختلافات في البشر وفي الجمادات وفي المخلوقات ما وسعتنا مجلدات.
***
فالعيب ليس في الخلاف؛ فإنه فطرة وجبلة وطبيعة، وقد خلقه الله -عز وجل- لغاية وحكمة... وإنما المشكلة كلها تكمن في فهم طبيعة الخلاف وفي تقبل الخلاف وفي إدارة الخلاف والتعامل معه... لذا تجد العلماء والفضلاء قد نظَّموا الخلاف ووضعوا له آدابًا تجب مراعاتها؛ ليكون الخلاف صحيًا بنَّاءً مثمرًا، ولكي لا يتسبب خلافنا في الضغينة والبغضاء وما لا تُحمد عقباه، فأولها -كما وضَّحنا- "إدراك أن الخلاف حتمي وضروري وطبيعي".
أما الأدب الثاني من آداب الخلاف: طلب الحق لا الانتصار للرأي: وانظر إلى تجرد الإمام الشافعي حين يقول: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه"(حلية الأولياء)، ولم يكن هذا الكلام من الشافعي مجرد شعارات وادعاءات، بل لقد شهد له أحد مناظريه وهو يونس الصَّدفي قائلًا: "ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ولقيني، فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة"( سير أعلام النبلاء، للذهبي).
ومن آداب الخلاف: التحرر من التعصب: يقول ابن تيمية: (وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك؛ بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، فيقدم من قدم الله -تعالى- ورسوله عليه، ويفضل من فضله الله ورسوله"(مجموع الفتاوى)، وكيف يتعصبون للأئمة والأئمة أنفسهم قد تبرءوا من ذلك؛ فقال الشافعي: "إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي"(المجموع، للنووي)، وقال أبو حنيفة: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"(رد المحتار)، وقال مالك: "كلٌّ يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا صاحب هذا القبر" وأشار إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-"( مختصر المؤمل، لأبي شامة)، وقال أحمد بن حنبل: "من ردَّ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو على شفا هلكة"( طبقات الحنابلة لأبي يعلى)، فنقدِّم الحق والدليل، ولا نتعصب لأحد.
ومن آداب الخلاف: الأدب مع المخالف وعدم إسقاطه: وكيف نسقطه مهما أخطأ وقد أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه رغم خطئه مأجور فقال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"(متفق عليه)، وما أجمل كلام الإمام الذهبي في هذا المقام: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما.. فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة"(سير أعلام النبلاء).
ومن آداب الخلاف: عدم الإنكار في المسائل الاجتهادية: فما دام الخلاف في غير القطعيات فهو خلاف سائغ لا ينكر فيه على من خالف ما دام له دليل وحجة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر يوم بني قريظة على الصحابة المختلفين وقد فعل كل منهم عكس ما فعل الآخر؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدًا منهم(متفق عليه)... وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم"(متفق عليه).
ومن آداب الخلاف: عدم استغلال الخلاف لتلبية أهوائنا: وذلك بتتبع الزلات، يحذر ابن القيم من ذلك قائلًا: "ليس له أن يتبع رخص المذاهب وأخذ غرضه من أي مذهب وجده فيه، بل عليه اتباع الحق بحسب الإمكان"(إعلام الموقعين، لابن القيم)، ويزودنا سليمان التيمي بالسبب قائلًا: (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"(سير أعلام النبلاء)، وهذا نموذج لذلك يخبرنا به الإمام أحمد فيقول: "لو أن رجلًا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقًا"(إرشاد الفحول، للشوكاني)، بل يبالغ الإمام الأوزاعي فيقول: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام"(السنن الكبرى للبيهقي).
***
وآداب الخلاف كثيرة ومتعددة قد أُلِّفت فيها المؤلفات، وإنما أشرنا هنا إلى بعضها مجرد إشارات، ثم جمعنا هذه الباقة من الخطب النيرات؛ لنزداد ونغترف ويعذر بعضنا بعضًا حين نختلف، فدونك فاستزد:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم