اقتباس
لكن في كل زمان ومكان تجد صنفًا من الناس لا يشكرون نعم الله بل يستخدمونها في معصيته -تعالى-، ولا يطلبون منها إلا أسوأ ما فيها: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا)، فاتخذوا من العنب خمرًا، وحوَّلوا "الديناميت" سلاحًا للقتل والدمار... وكذلك فلما أنعم الله -تعالى- عليهم بنعمة وسائل التواصل الاجتماعي فإذا بهم قد استغلوها شر استغلال واستخدموها أبشع استخدام...
قالوا: وسائل حديثة تعزز تواصل الناس بعضهم ببعض، وتصل القريب بقريبه وذا الرحم برحمه... وقالوا: وهي وسيلة ممتازة لتناقل المستندات والمعلومات والصوتيات والمرئيات... وقالوا: وهي أداة جيدة للتعارف والتآلف وتبادل الخبرات... فقلنا لهم: نعمة من الله وفضل وقرة عين.
وبتنا ليلة نحمد الله -تعالى- ونشكره على تلك الوسائل الاجتماعية التي تصل بيننا وتربطنا وتوطد الأواصر فيما بين المسلمين... وحق لنا أن نشكره -عز وجل- على ما سخر لنا من تلك النعمة الجليلة التي مَنَّ بها علينا، ففوق أنها سبيل سهلة ميسورة لصلة الأرحام وتواصل الإخوان، فها هم طلبة العلم قد جعلوها منصات للتعلم وللتثقيف... وها هم العلماء يبثون عليها دروسهم العلمية المسموعة والمرئية ويرفعون عليها كتبهم وأبحاثهم... وها هم المفكرون يعرضون على تلك الشبكات الاجتماعية أفكارهم وآراءهم... وها هم التجار يروجون على وسائل التواصل الاجتماعي منتجاتهم...
فصرت وأنت في بيتك لم تبارحه تستطيع أن تتعلم علم الأئمة جميعًا وتتدارسه مع إخوانك وتراجع معلمك فيما لم يتضح لك...
وأصبحت وأنت على فراش نومك تقدر أن تشتري ما تشاء من سلع وبضائع ومأكولات ومشروبات وأثاثات وتعاينها وتتعرف على أثمانها وتقارن بينها ثم تطلبها، فتصل إلى باب منزلك تمامًا كما أردت...
وإن أوحشك أخوك أو صديقك الذي سافر إلى بلاد بعيدة نائية فإنك تستطيع أن تكلمه في أي ساعة شئت من ليل أو نهار، فتخاطبه مخاطبة وتشافهه مشافهة بالصوت والصورة دون أن تتكلف مشقة أو تنفق مالًا أو تبذل جهدًا يُذكر...
أليس كل هذا وغيره: خير ونعمة من الله تستحق شكر المنعم -عز وجل- عليها؟!... فاللهم لك الحمد على ما سخرت لنا من تلك الوسائل المفيدة النافعة السهلة الميسورة.
***
لكن في كل زمان ومكان تجد صنفًا من الناس لا يشكرون نعم الله بل يستخدمونها في معصيته -تعالى-، ولا يطلبون منها إلا أسوأ ما فيها: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا)[إبراهيم: 28]؛ فلما رزقهم الله -عز وجل- بالأعناب وأشجار النخيل المثمرة تلك التي تُنتج الفاكهة الشهية الطازجة أخذوها فعصروها وصنعوا منها خمرًا! (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا)[النحل: 67]، ولما ألهم الله -تعالى- أحد البشر فاخترع "الديناميت" ليُستخدم في التنقيب عن المعادن في باطن الأرض، أخذوها فاستخدموها في الحروب والتدمير والخراب فقتلوا بها بعضهم البعض...
وكذلك فلما أنعم الله -تعالى- عليهم بنعمة وسائل التواصل الاجتماعي فإن هذا الصنف من البشر الذي أشرنا إليه قد استغلوها شر استغلال واستخدموها أبشع استخدام؛ فنشروا عليها الخنا والفجور واتخذوها ذريعة للصداقات المحرمة وأعلنوها منبرًا للرذائل وموردًا لكل قبيح!... وصارت تلك الشبكات مقصدًا لكل ذي فكر ضال مضل يعرض عليها كفره أو فسقه أو إلحاده فيفتن الساذجين ويستقطب الجاهلين ويستأثر بالمترددين الحائرين!
فصار الداخل إلى تلك الوسائل عرضة لأن يصاب أو يُبتلى أو يُفتن أو يُشغَل أو يؤذى أو يأثم أو يغرق في أوحال من التفاهات والترهات!
***
فهل نحرِّم تلك الوسائل ونهجرها ونعتزلها بسبب أخطاء مستخدميها؟ نقول: كلا أبدًا، وكيف نتركها! هل نتركها ساحة خالية للفجار يجمحون فيها ويمرحون كيفما شاءوا؟! هل نهجرها لتقع في أفواههم لقمة سائغة يتلذذون بها؟! هل نسلم لهم عامة الخلق يغوونهم ويضلونهم ويفتنونهم ويختلونهم عن دينهم؟!...
لكن -في نفس الوقت- هل نبيح الدخول إليها للجميع؟ هل نُحِل الدخول إليها فنتلطخ بوحلها ونصطلي بنارها ويصيبنا من فسقها وطينها؟!
نجيب: إن الحق وسط بين نقيضين؛ فلا نبيحها على إطلاق ولا نحرمها على إطلاق، بل نجيز الدخول عليها بضوابط وشروط حددها علماؤنا، فإن التُزِمت تلك الضوابط والحدود صار الدخول إلى تلك الوسائل مباحًا أو مستحبًا، وإلا فهي شر ووبال يجب تجنبه، فالسلامة لا يعدلها شيء.
***
ولن نفصِّل هذه الضوابط ها هنا، فقد عقدنا محورًا كاملًا في ملفنا هذا عن هذه الضوابط والشروط والحدود، وهو المحور الثاني، ومن قبله كان المحور الأول وعرَّفنا فيه بمواقع التواصل وماهيتها وأهميتها وبعض أحكامها.
ثم المحور الثالث وخصصناه للكلام عن إيجابيات مواقع التواصل الاجتماعي ومنافعها في شتى مجالات الحياة سواء كانت اقتصادية أم سياسية أم أخلاقية أم خدمية أم نفسية أم صحية أم علمية...
ثم كان كلامنا في المحور الرابع عن عكس ذلك وضده؛ وهي الآثار السلبية التي نتجت عن سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتلك المفاسد التي أصابت الفرد والمجتمع من جراء ذلك.
أما المحور الخامس ففيه الدواء والعلاج وكيفية ترشيد استخدام تلك الوسائل التواصلية المفيدة من حيث أصلها ووضعها، وطرق الرقابة التي نستطيع من خلالها السيطرة عليها، والفئات المنوط بها القيام بواجب التوجيه والحسبة على مستخدميها.
وأخيرًا فقد جمعنا عددًا من الكتب والمراجع في المحور السادس لتكون تأصيلًا وتأسيسًا لكل ما جاء في المحاور الخمس الأولى من مواد صوتية ومرئية ومن كتابات متنوعة ما بين خطبة ودراسة وبحث ومقال وفتوى.
فالله نسأل أن ينفع به كل من ساهم في إعداده وإخراجه ونشره، وكل من وقف عليه أو طالعه..
التعليقات