عناصر الخطبة
1/ ظُلْمُنا وجهلُنا بانشغالنا بالجانب السيئ من المخترعات 2/ تحويلنا نعمة الجوال إلى نقمة 3/ وقفات مع مآسي التصوير بالجوالات 4/ حلولٌ لمشكلاتِ سوء استخدامنا للتقنيات المعاصرةاقتباس
لماذا نظلُ أمةً متخلفة، لا تحسن استخدام التقنية؟ كلنا يدرك أنَّ الهاتفَ، بأنواعِه، ومنها الهاتفُ الجوال، من نِعمِ اللهِ علينا، فكمْ أنقذتْ هذه الخدمةُ من أرواحٍ بعد قدرةِ اللهِ ومشيئته! كم من مسافرٍ ظلَّ على اتصالٍ بأهلِه بها! كم من تائهٍ في طريقٍ وصل إلى مراده بها! كم اختُصِرت بها من مسافات، وقُضي بها من حاجات! لكنها، في عالَمِ السَّفَهِ والسقوط، تحولتْ إلى وسيلةِ فسادٍ وإفساد، حين سُخرت لغيرِ مرادِها، واستعملتْ في غيرِ طريقها.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الواحدِ القهار، الكريمِ الغفار، وأشهد أن لا إله إلاَّ اللهُ وحده لا شريك له, كلُّ شيء عنده بمقدار, وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه النبيُ المصطفى المختار, صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ الأطهار، وأصحابِه الأبرار، من المهاجرين والأنصار، والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلَّم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وكونوا مع الصادقين، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: وصَفَ الله -تعالى- الإنسانَ بالجهلِ والظلمِ فقال: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
فما أظلمَ الإنسانَ! وما أجهلَه! ما أظلمَ الإنسانَ حين يجحدُ بأفعاله مننَ المنان! ما أظلمَ الإنسانَ حين يبدِّلُ نعمةَ الله كفراً, ويُحِلُ قومَه دارَ البوار! ما أظلمَ الإنسانَ حين يستغني فيطغى! ما أجهلَ الإنسانَ حين يستخدمُ نعمَ اللهِ المسخرةَ لخدمته في بوارِهِ ومضرتِهِ!.
يقول -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:30-34].
ويقول -تعالى-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [النحل:53-55].
عباد الله: إنَّ مِنْ نعمِ اللهِ -تعالى- على عباده أن سخَّرَ العقولَ البشريةَ لتبدع في الاختراع، وما مِن يومٍ إلاَّ وتتفتق فيه العقولُ عن مخترَعٍ جديد، أو صنعةٍ حديثةٍ، وما من شيءٍ منها إلّا -في الغالب- له جناحان: جناح داء، وجناح دواء.
والأممُ الراقيةُ الواعيةُ تأخذُ من المخترعاتِ دواءَها، وتسخِّرُها لتحقيقِ مصالحِها ومنافعِها، والأممُ المتخلِّفةُ تنشغلُ بجناحِ الدَّاء ولا تأخذُ من المخترعاتِ إلاَّ جانبَها المظلمَ، وطرَفَها المضرَّ، وحدَّها المؤذي؛ وتلك أمارةُ التخلفِ والسطحيةِ والانهزام!.
العدوُ يصنعُ ويخترع، وفي كلِّ صناعاته جانبان: نافعٌ وضارٌ. أما هو فيأخذ بأحسنِها، ويربي أبناءه على ذلك، ويدعُ لنا الجانبَ المظلمَ، ويلقي في روعِ أبناءِ أمتِنا أنَّ الحياةَ سفاهةٌ وغُثاء!.
يصنعون الحاسبَ الآليَّ ليستخدموه في التخطيطِ والبرامجِ الهادفةِ، ويستخدمه بعضُنا في الألعابِ التافهة، وإضاعةِ الأوقاتِ الشريفة!.
يخترعون شبكةَ الإنترنت، ليجعلوا منها وسيلةً للتواصلِ بين الشعوب والهيمنةِ الحضاريةِ والثقافيةِ، أو يتخذونها منطلقاً للتنصير، ويستخدمها كثيرٌ منا في تتبعِ الفواحشِ والمحرماتِ، أو المحادثات المنفلتة من ضوابط الشرع!.
يخترعون الهاتفَ، ليستخدموه في حاجاتِهم وتسهيلِ أعمالهِم، وتستخدمه ثلةٌ من أبنائنا في الرسائلِ الهابطةِ، والمكالماتِ الساقطة!.
لماذا نظلُ أمةً متخلفة، لا تحسن استخدام التقنية؟ كلنا يدرك أنَّ الهاتفَ، بأنواعِه، ومنها الهاتفُ الجوال، من نِعمِ اللهِ علينا، فكمْ أنقذتْ هذه الخدمةُ من أرواحٍ بعد قدرةِ اللهِ ومشيئته! كم من مسافرٍ ظلَّ على اتصالٍ بأهلِه بها! كم من تائهٍ في طريقٍ وصل إلى مراده بها! كم اختُصِرت بها من مسافات، وقُضي بها من حاجات! لكنها، في عالَمِ السَّفَهِ والسقوط، تحولتْ إلى وسيلةِ فسادٍ وإفساد، حين سُخرت لغيرِ مرادِها، واستعملتْ في غيرِ طريقها.
تحولتْ هذه النعمة إلى أداةِ أذى ومضايقةٍ للآخرين في مساجدِهم ومجالسِهم ومدارسِهم وأماكنِ أفراحِهم.
تحولتْ هذه النعمة من وسيلةٍ لقضاء الحاجات، إلى وسيلةِ إضرارٍ وعبثٍ وضياعٍ للأوقات! أصبحنا ننامُ ونستيقظُ ونحن نتحدَّثُ عبر هذه الجوالات.
أصبحنا نتحدَّثُ بها في كل مكان، حتى داخل المساجد، وفي ساحاتِ المسجدِ الحرام، وأثناء الطواف، وعند إقامةِ الصلوات، ونتحدَّثُ في المجالس، وفي الاجتماعات، وأثناء المحاضرات، نتحدَّثُ في كل شيء، وعن كل شيء، في قيلَ وقال، وفي سؤالٍ متكررٍ عن الحال، وفي أخبارِ الزوجةِ والعيال، فضلاً عن فئةٍ حديثُها العشقُ والغرام! وفي إيقاعِ الغافلات, واستدراجِ المحصنات.
لقد أصبح الجوالُ -يا مسلمون- محنةً ونقمةً، يوم أن أصبحَ بيدِ السفهاء والصغارِ والمراهقين، يستخدمونه فيما يُغضبُ الله، ويؤذي عبادَه.
أصبح الجوالُ نقمةً حينما أصبحَ مصدراً لرسائلَ ساقطةٍ تحملُ في مضمونها حديثاً عن العشقِ والغرامِ، والحب والهُيام، ولمزاً لشعوبٍ وقبائلَ وأمم.
أصبح الجوالُ نقمةً حينما أصبحَ موضةً يُتباهى بها، ويوم أن أصبح سمةً للمظهريةِ الزائفةِ الزائلة، يتحدث به الصغار في مجالس الكبار، ولسان حال أحدهم: ها أنا ذا أحمل جوالاً فشاهدوني!.
والسؤال المهم الملح: متى يعود الجوال منحةً ونعمةً بعد أن أصبح محنةً ونقمة؟ يعود الجوالُ منحةً ونعمةً حينما يكون بيد العقلاء يستخدمونه فيما يرضي الله، وفيما يخدم مصالحهم، ويقضي حوائجهم.
تعود الجوالات نعمة, حين تتضمن رسائُلها دعوةً إلى الخير، وإنكاراً لمنكر، ونشراً لتباشيرِ النصر، وذلك حين يعي مرسلوها حقيقة قوله -تعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثمِ مثل آثامِ من تبعه، لا ينقصُ ذلك من آثامِهم شيئا" . وأنَّ كل ما سطَّرته اليدُ سيُكتب ويسألون عنه.
لقد كفرَ بعضُ الناس نعمةَ الجوال حينما أصبح مصدراً للأذى في المساجد بنغماته المزعجة، وأصواته المؤذية، ومزاميره الشيطانية، فشوش على المصلين في صلاتهم، وقطع عليهم خشوعهم وإقبالهم, ووالله! لو قيل لنا قبل أعوام: سيأتي اليومُ الذي تُرفعُ فيه مزاميرُ الشيطان مع الأذان, وتُسمعُ الأغاني الماجنةُ مع الصلاةِ والقرآن, وتُضربُ المعازفُ والموسيقى في بيوت الرحمن، لقلنا ذاك كذب وربِّ الأنام, إلاَّ إذا دخل اليهود محتلين لبلاد الإسلام! لكنه أصبح حقيقة، ومن فعل المسلمين أنفسهم في هذا الزمان, فاللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا!.
لقد أصبحت الجوالاتُ نقمةً حينما استخدمت في مجالس العلم وقاعات الدراسة والتعليم، فأذهبت هيبةَ مجالسِ العلم، وقطعت الفائدة على الدارسين.
لقد أصبحت الجوالاتُ نقمةً حينما استخدمت في المعاكساتِ وإيذاءِ المحصناتِ الغافلات، فكم من عفيفةٍ ديس شرفُها، وكانت البدايةُ رسالةَ جوالٍ عابثة، أو مكالمةً خاطئة! كم من أبٍ فُجعَ بابنته حينما تلطَّخ شَرَفُها، وهو يقول: أنى لكِ هذا؟!.
لقد أصبحت الجوالاتُ نقمةً حينما أفسدتْ مجالسَنا، وقطعتْ أحاديثَنا.كم من متحدِّثٍ متحمسٍ قَطَعَ حماسَه مكالمةٌ تافهة؟! وكم من مجلسٍ مهيبٍ ذهبتْ هيبتُه بمتحدِّثٍ لا يراعي للاستماعِ آدابا، ولا للمجالسةِ أخلاقا؟! وإنْ كان الردُ والاتصالُ مغتفرا في الضرورةِ، أو عند حاجةٍ يُخشى فواتها، أو في مجلسٍ لا جدَّ فيه.
عباد الله: ولا ننسى في هذه المناسبةِ أن نتحدَّثَ عن تلك الجوالاتِ المصوِّرَةِ صوراً ثابتةً ومتحركة، والتي تحمل خدمة البلوتوث، ذلك الجوال الذي انتشر بين صفوف المسلمين رجالاً ونساءً, فيا لله! كمْ نَشَرَ من القبائحِ والفضائح! كمْ كَشَفَ من العورات، وهَتَكَ سِتْرَ العفيفاتِ الغافلات! وكمْ أشاعَ من الفواحشِ والمنكرات!.
من خلالِه ينْشُرُ أهلُ الفسادِ فسادَهم, ويحققون بواسطتِه أهدافَهم ومآربَهم, ينقلون به عوراتِ البيوتِ والمدارسِ وقصور الأفراح, فكمْ من امرأةٍ عفيفة طُعنتْ في عفافها من صديقةٍ لها نشرتْ صورتَها على ملأ من النَّاس!.
لقد ضربَ البلوتوث أعظمَ الأمثلةِ على الشَّرِ بنقله فئاماً من طُهرِ المجتمع المسلم إلى مستنقع الرذيلة وأودية الفساد، فصرت ترى رجالاً مفتونين في حالةٍ من قلةِ الذوقِ وانعدامِ الحياءِ وضعفِ الإيمان يقلِّبون صورَ العاهراتِ الفاجراتِ في مجالسهم، أو نساءً خلعن جلبابَ الحياءِ وزينةَ الإيمانِ يقلِّبن صور الماجنين والساقطين!.
إنَّ هذا النوع من الجوالاتِ مأساةٌ بكلِ المقاييس, كيف وهو يحتفظُ بالصورِ ولو مُسحتْ، ويُطيلُ أمَدَ التصويرِ إلى ساعات؟.
إن الجرائم والفضائح التي نقلتها هذه الجوالات، والتي هزَّت المجتمعَ وزلزلت كيانَه وأثارت اشمئزازه، لنْ تكون الجرائمَ الأخيرةَ لهذِه الأجهزة. لنْ يكون الطفلُ المختطف الذي تم اغتصابه وتصويره بهذا الجهاز آخر الماسي, ولنْ تكون حادثةُ الرياضِ المشهورةِ آخرَ المآسي, ولنْ تكون حادثةُ شارعِ النَّهضة آخَرَ المآسي, ولنْ يكون ما قامتْ به إحدى الهيئات من مصادرةِ مائة ألف شريطٍ يتضمن صوراً نسائية لأعراسٍ في بلادنا تُباعُ وتُنشرُ، لنْ تكون آخر المآسي.
ولذا؛ فإنَّ الحديثَ عن هذه المأساة الأخلاقية سيتضمن الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: إن مآسي هذا الجهاز إنما هي ثمرةٌ مرةٌ لتلك الفتاوى محلولة العقال، والمبنية على التَّرخص، والتي أباحت التصويرَ مطلقاً وبلا شروط، دون الإشارةِ إلى أنَّه من المسائلِ الخلافيةِ التي من اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه، وأنَّ الورع يقتضي تركه وعدم الخوض فيه.
الوقفة الثانية: إنَّ فئاماً من شبابِ المسلمين قد ركبوا سُنَّةَ من كان قبلهم من الكفرةِ والمنافقين، والمجَّانِ الفاسقين، وذلك بالاستهانةِ بالمشاهدِ الخليعة، والصورِ القبيحة، ولم يكتف أكثرُهم بحفظِها والنظرِ إليها مع ما في ذلك من إسخاط الرب -جلَّ جلاله- وقتلِ الغيرة والمروءة, بل راحَ كثيرٌ منهم يشيعونها في المسلمين، ويتناقلونها مع أصحابهم وأقرانهم، ويرسلونها إلى من يعرفون، ومن لا يعرفون، ولا يدركون مغبَّةَ ما يفعلون!.
الوقفة الثالثة: إنَّ استعمالَ كاميراتِ الجوال، والكاميرات الرقمية، في أمورٍ محرَّمة، كتصوير النساءِ، وبثِّ صورهنَّ ونشرها عبر البلوتوث أو الانترنت، إنما هو عملٌ محرم، ومن أشدِّ الآثامِ تحريماً، لما فيه من انتهاك أعراضِ الآخرين، وإيجادِ المشكلاتِ الأسرية، والتسببِ في إشاعةِ الفواحشِ في المجتمع، وإيذاءِ المؤمنين والمؤمنات.
ومن هنا، فإنَّ على المسلمِ الصادقِ أن يهجرَ مثلَ هذه الأجهزةِ التي تهتكُ الأعراضَ، وتنشرُ الرذائلَ، أو -على الأقل- الامتناع عن استقبالِ الصورِ المحرمة، والمساهمةِ في نشرها؛ "من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته"، فلا يجوزُ النَّظرُ إلى الصورِ المخلّةِ، مهما كان المبررُ لذلك: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) [الأحزاب:58].
ومن ساهم في نشرِ الصورِ المحرمةِ، أو الأفلامِ الفاضحةِ، أو "الكِلِبَّاتِ" الماجنةِ، إلى غيره؛ فإنه يبوءُ بإثمِ صاحبِه مع إثمِه، من غيرِ أن ينقصَ من آثامِ من أرسلتْ إليهم، إلى قيامِ الساعة؛ قال -تعالى-: (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [النحل:25].
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن دَعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا".
والعاقلُ تكفيه ذنوبُه، فكيف يرضى بحمل أوزار الآخرين، وبأعداد مهولة تزيدُ بمرورِ الأيامِ وتقدُّم الأعوام، وبسببِ التطورِ الهائلِ في وسائلِ الاتِّصال وتبادلِ المواد بالهواتفِ الجوالةِ والإنترنت؟.
الوقفة الرابعة: إنَّ في نشرِ هذه الموادّ المحرمة، وكذلك وضع نغماتِ التنبيهِ على الموسيقى والأغاني، إنَّ في ذلك كلِّه مجاهرة بالذنب، وخروجا من المعافاةِ التي يُحرم منها المجاهرون, فليعلم الذين يتناقلون الصورَ الفاضحة، والأفلامَ الساقطة، والنغماتِ المحرمة، و"الكِلِبَّاتِ" الماجنة، أنهم حَرِيون بالخروجِ من سِتْرِ الله -تعالى- إلى المجاهرة بعصيانه، ويُخشى عليهم الحرمانُ من المعافاةِ في الدنيا والآخرة، مما يُنذرُ بسوءِ الخاتمة، وشؤمِ العاقبة، نسأل اللهَ العافية.
ودليل ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كُلُّ أمتي معافىً، إلا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعملَ الرجلُ بالليلِ عملاً ثم يصبحُ وقد ستره اللهُ، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يسْتُرُهُ ربُه، ويصبحُ يكشفُ سترَ اللهِ عنه".
قال ابن القيم -رحمه الله- وهو يعدد أضرار المعاصي: ومنها أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهو عند أرباب الفسوق هو غاية التفكّه، وتمام اللذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدِّث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان، عملتُ كذا وكذا، وهذا الضَّرب من الناسِ لا يُعافون، وتسدُ عليهم طريقُ التوبة، وتُغلقُ عنهم أبوابُها في الغالب. اهـ.
الوقفة الخامسة: إنَّ في استقبالِ الصُّورِ، والأفلامِ المحرمة، ومقاطع الفضائحِ والعوراتِ، وتناقلها، ونشرها، إشاعةً للفاحشةِ في الذين آمنوا؛ واللهُ -تعالى- يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور:19].
قال ابن القيم رحمه الله: "هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها؛ فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها؟".
فاتق الله يا من تلطَّخ بهذا الإثم المبين، ولتبادر بتوبة إلى الله نصوح قبل أن يدهمك الموت وأنت على هذه الحال السيئة، فإذا ابتليت بهذه القاذورات من استقبال المحرمات حتى صرت أسيراً لها فلا أقلَّ من أن تستتر بسترِ الله، فلا تجاهرْ بها، ولا تكنْ عوناً للشيطان على غوايةِ شبابِ المسلمين وفتياتِهم؛ فإذا اقتصرت على ذلك رُجِيَتْ لك التوبة، وكان حرياً أن تُعتق من أَسرِ تلك الخطيئةِ المشينة.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله -تعالى- عنها، فمن ألَمَّ بشيءٍ منها فليستتر بسترِ الله، وليتبْ إلى الله".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطية الثانية:
الوقفة السادسة: مع تقديرنا للخطواتِ التي عملتها بعضُ قصورِ الأفراحِ والمدنِ الترفيهية من منعِ هذا النوع من الجوالات، والتفتيش عند البوابات، وما اتُخذ من إجراءاتٍ لمنع هذه الأجهزة، وإن كان هذا ضرورياً، إلاَّ أنَّ الحلَّ الأمثلَ ليس المنع، فكل ممنوعٍ مطلوب، وما من وسيلةٍ تُمنع إلا ويفتح بدلاً عنها عشراتُ الوسائل.
إن الحلّ الناجع هو تربيةُ الأبناءِ والبناتِ على الشعورِ بالاستحياءِ من اللهِ ومراقبته، واستشعار خطورةِ التعرض لأعراضِ المسلمين والمسلمات؛ لا بدَّ من التربيةِ على قضايا الإيمان، والصيانةِ للنفس، وحفظِ العِرض.
الحلُ يكمن في تنميةِ الوازعِ الديني لدى أفرادِ المجتمع، وزيادةِ الوعي الاجتماعي عن المخاطرِ المترتبةِ على سوءِ الاستخدامِ في التقنياتِ المعاصرة، وتحصينِ شبابنا وفتياتنا بالتربيةِ القويمةِ، والنصحِ، والإرشادِ والتوجيهِ من هذه المخاطر مجتمعة، ومن هنا تنبعُ أهميةُ هذه القضية في صيانةِ وحمايةِ أخلاقِ المجتمع، والحفاظِ على الأعراض.
والحلُ يكمن -أيضاً- في تربيةِ النساءِ على الحشمةِ والحياءِ والسِّترِ والعفافِ في كل مناسبة، وعند كل خروج، والبعدِ عن مواطنِ الريب.
الوقفة السابعة: لا بدَّ أنْ نجعلَ الأعراضَ في المجتمع من الأمورِ التي تقعُ فوقَ الخطوطِ الحمراء، ولا بدَّ من الضربِ على يدِ أي إنسانٍ يعبث بأعراضِ المسلمين، ومعاقبته على أفعالِه بأشدِّ العقوبات التي تكون كفيلةً لردع الآخرين، أما العقوباتُ الهزيلة فهي تشجعُ الآخرين على اقترافِ مثل هذه الجرائم، ومن هنا يتأكد على من يحكم في مثل هذه القضايا أن يراعي مصالحَ الأمة، وأن لا تأخذه في اللهِ لومةُ لائم، وأن يكون العقابُ متناسباً مع عِظَمِ الجريمة، وما هلكتْ الأممُ إلا حينما قطعت الضعيفَ وتركت الشريف.
وأخيرا، أوجه هذا النداء إلى كلِّ شابٍّ وفتاةٍ تجري في عروقهم دماء الإسلام، وتنبضُ جوارحهم بالخوفِ من وعيد الرحمن، والطمعِ في وعده بالجنان، إلى كلِّ من تورطَّ في إيذاءِ الغافلين والغافلات، إلى كلِّ من تلطَّخَ بدنسِ هذه الجوالات، إيذاءً أو مشاهدةً أو استقبالاً أو نشراً أو إشاعةً، إلى هؤلاء جميعاً ننادي: اتقوا الله ربَّ العالمين!.
يا هؤلاء! "لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله".
لقد قال رسولُكم -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ دماءَكم وأعراضَكم وأموالَكم عليكم حرام"، فما بالكم تستحلونها وتبيحون لأنفسكم انتهاكها؟.
يا هؤلاء! أهلُ الجاهلية سالتْ دماؤهم من أجلِ أعراضهم، ودفنوا بناتهم تحت التراب ظلماً خوفاً من العار, ونحن أعراضنا تداس بأيدي أبنائنا وبناتنا؛ أفلا تتقون؟.
يا هؤلاء! من يحمي أعراضنا في الأعراس والحفلات والمدارس والمحاضرات؟ فكل الوسائل لا تحول بين العابثين وبين عبثهم، وليس من قوة عاصمة إلا قوةُ الإيمان، والخوفُ من الرحمن.
يا هؤلاء: عفوا تعف نساؤكم في المحرم *** وتجنبوا مـا لا يليق بمسلـم
إن الزنـا ديـن فإن أقرضته *** كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزنِ يُزنَ بـه ولو بجداره *** إن كنت يـا هذا لبيبا فافهم
العينان تزنيان وزناهما النظر، فكيف بعينٍ ترى عورةَ مؤمنة غافلة؟ وكيف بعينٍ تنقل ما رأتْ إلى ملايين مملينة؟ وكيف بعينٍ كانت بدايةَ قصةٍ مؤلمةٍ محزنة؟ وكيف بعينٍ قامتْ بالنقل، فكانت سبباً في الفُرقة والقتل؟.
إذا كان من غشنا في طعامٍ فليس منا؛ فكيف بمن غشنا في أعراضِنا؟
إذا كان آثماً من روَّع مسلماً بحديدةٍ؛ فكيف بمن روّعه في عِرضه؟.
يا هؤلاء! استروا أعراضَ إخوانِكم وأخواتِكم يستر اللهُ عوراتكم يومَ القيامة، وكفُّوا عن النَّظرِ إلى عوراتِ المسلمين, فعينٌ حرَّمها الله على النار هي عين كفَّت عن محارم الله.
يا هؤلاء! "إنَّ الله يغار، وغيرةُ الله أن تُنتهك محارمه"، "اتقوا الظلمَ؛ فإنَّه ظلماتٌ يومَ القيامة"، واتقوا دعوةَ المظلوم، فإنها مستجابةٌ وليس بينها وبين الله حجاب.
يا أيها العابثون بأعراض المسلمين: أذكّركم الوقوفَ بين يدي الله -عز وجل-، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30]، (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم