اقتباس
فالأصل في هذه المواقع الحل والإباحة، تمامًا كالسكين التي يجهز به الطعام فإنها آلة مفيدة واستخدامها مباح، أما إن أساء أحدهم استخدامها فقتل بها شخصًا، فنقول ساعتها: بحرمة استخدام السكين في القتل، وهي تمامًا كفاكهة العنب فأكلها مباح ومذاقها لذيذ وهي من الطيبات، لكن إذا أساء بعضهم استخدامها فعصرها وصنع من عصيرها خمرًا، قلنا: يحرم اتخاذ الخمر من العنب...
منذ ألف سنة أو ألفين أو أكثر من ذلك، كان المساكن بعيدة عن المساكن، والمسافات بين البلدان وبعضها البعض طويلة وشاقة ومملة ومؤلمة؛ إذ أنها كانت تُقطع على ظهور الجِمال أو ما شابهها في قلب الصحاري الشاسعة بقليل الطعام والشراب مع التعرض للمخاطر، وكان الأهل إذا تزوجت ابنتهم في قبيلة غير قبيلتهم أو في بلد غير بلدهم تكبدوا لزيارتها عناء السفر والتنقل، ولصعوبة ذلك فقد كانوا يرونها ويزورونها على أوقات متباعدة... ومع ذلك ورغم أن التواصل بالوجوه والأجساد كان قليلًا أو نادرًا، فقد كان الأهل متواصلين بقلوبهم ووجدانهم وأفئدتهم...
وما زال الناس يبحثون عن وسائل تسهل اتصالاتهم، فكانوا يبعثون الرسل من البشر تحملهم الخيول ومعهم الرسائل المكتوبة على الأحجار ثم على الرقاع الجلدية ثم على أوراق البردي، ظهرت الطفرة في ذلك؛ فكان نظام البريد السريع الذي تنقله القطارات أو الطائرات...
وكان الناس قديمًا يربطون الرسائل خفيفة الوزن في أرجل الحمام الزاجل فتظل أيامًا محلقة في السماء حتى تصل إلى بغيتها... وكانت جميع تلك الوسائل تنقل الكلمات المكتوبة فقط ولا غير، أو قد يُرسل الرسول فينقلها مشافهة، وانفتق العقل البشري -الذي أهَّله الله لذلك- عن وسيلة لنق الصوت البشري بتسجيله على "أشرطة الكاسيت"، وكانت هذه رسالة صوتية من طرف واحد تحتاج أيضًا من يحملها وينقلها إلى حيث المرسل إليه، فابتكروا الهاتف الأرضي الذي ينقل الكلمات في التو واللحظة من الطرفين في محاورة واقعية.
ثم ظهرت الطفرة تلو الأخرى، حتى صار التواصل الفوري بين البشر ميسور جدًا وسهل جدًا من خلال الهواتف النقالة المحمولة، ومن خلال الانترنت، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة الكثيرة، وصار الرجل المقيم في الصين يستطيع بلا عناء أن يتواصل بالصوت والصورة وفي التو واللحظة مع أهله في أمريكًا أو في أي بقاع الأرض...
ومع أن وسائل التواصل الاجتماعي هذه صناعة غربية صُنعت في بلاد غير بلادنا، لكنها قد انتقلت إلى بلادنا وانتشرت واستشرت وعمت وطمت ووصلت كل بيت بل وكل حجرة وفي يد كل رجل وامرأة وكبير وصغير!
وكان من الممكن أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي هذه نعمة على المجتمع كله؛ نصل بها أرحامنا، وننشر بها العلم، ويتلاقى بها الإخوان، ويرتقي بها المجتمع إلى الأسمى والأفضل، ويدحر بها الرذائل عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... لو حدث هذا لكانت مواقع التواصل هذه نعمة من أهم نعم الله، وهذا هو الحاصل لكن مع قليل جدًا من مستخدميها.
لكن الأغلبية الساحقة من مستخدمي مواقع التواصل على غير ذلك، قد أساءوا استخدامها أشد إساءة؛ فصار كل ناقم على الدين ينشر سمومه من خلالها ويبث أفكاره الخبيثة بلا رقيب من الخلق ولا حسيب، وصار كل جاهل متعالم يملي على الناس من قبيح رأيه وفكره الضال، وصار كل صاحب هوى يصنع منها منصة يُطلق منها شبهاته وأباطيله، واتخذها عبيد الشهوات مجالًا ومسرحًا لتسعير الشهوات والقذف بحمم الدم واللحم التي تفور وتغتلي...
أما الأهل والأحباب الذين كانوا قديمًا يتمنون اللقيا والتواصل، وكانت قلوبهم متعلقة بعضها بالبعض مع بعد المسافات، فقد اختُزلت اليوم تلك المسافات وتيسر اليوم التواصل فيما بينهم، ولكن مع الأسف لقد تقطعت القلوب وانفصمت المودات وتهتكت العلاقات وشوِّهت التعاملات! إذ انشغل كل منهم بهاتفه الذي يحمل مواقع التواصل الاجتماعي! فعجبًا والله ثم عجبًا! أما كانوا يتمنون ما يوصل بعضهم ببعض؟ أولما جاءهم ما تمنوا صنعوا منه سببًا في التباعد والتقطع والتشرذم؟! إنه كفران الإنسان بالنعمة!
***
أيها المسلمون: لست أقول بحرمة الدخول على وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامها، وكيف يقول أحد بحرمتها وديننا هو دين التعارف والتواصل: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13]، بل أقول بحرمة إساءة استخدامها ونشر ما لا يحل عليها.
فالأصل في هذه المواقع الحل والإباحة، تمامًا كالسكين التي يجهز به الطعام فإنها آلة مفيدة واستخدامها مباح، أما إن أساء أحدهم استخدامها فقتل بها شخصًا، فنقول ساعتها: بحرمة استخدام السكين في القتل، وهي تمامًا كفاكهة العنب فأكلها مباح ومذاقها لذيذ وهي من الطيبات، لكن إذا أساء بعضهم استخدامها فعصرها وصنع من عصيرها خمرًا، قلنا: يحرم اتخاذ الخمر من العنب.
والخلاصة أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من المباحات لكن بشروط محددة وضوابط معينة، فإن اختل منها شيء فإن استخدامها حرام أو مكروه، أو هي إلى الحرمة والكراهة أقرب منها إلى الإباحة، ومن هذه الشروط والضوابط:
أولًا: تجنب مشاهدة المحرمات أو نشرها أو المشاركة فيها: فلا تعرض نفسك للفتن فتضعف وتسقط في حمأتها، ولا تعرض نفسك للشبهات فتدخل على صفحات تشكك في دين الله، وليكن نصب عينيك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات"(أبو داود، وصححه الألباني)، فلا تدخل مواقع التشكيك ثقة في نفسك فتستقر شبهة في قلبك، وأنصت وأطع نصيحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس، لا تمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية"(متفق عليه).
ثانيًا: أن لا تلهيه عن الفرائض والواجبات والمستحبات: فإننا نرى من يجلس على مواقع التواصل هذه بالساعات الطوال ولا ينفق ساعة واحدة لقراءة القرآن، يسمع أذان الصلاة ولا يقوم إليها، يقرأ الأخبار والمنشورات وتعليقات المشاركين عليها... ثم هو لا يتصفح كتاب علم!... ولقد كان ديدن قدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم- التخلص من كل شيء يشغله عن الخير ولو كان هذا الشيء من المباحات، فيروي ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتمًا فلبسه قال: "شغلني هذا عنكم منذ اليوم، إليه نظرة، وإليكم نظرة ثم ألقاه"(النسائي، وصححه الألباني)، وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي"(متفق عليه).
ثالثًا: التزام القصد في ارتيادها: بمعنى أن تدخلها لحاجة معينة كإجابة لسؤال أو تواصل مع قريب أو صديق أو اغتنامًا لفضل أو علم... فإذا قضيت حاجتك فلتخرج منها دون تضييع وقت ثمين أنت في أمس الحاجة إليه...
رابعًا: أن يتثبت قبل النقل أو المشاركة: فلا ينقل حديثًا نبويًا حتى يتيقن من صحته، ولا معلومة -ولو غير شرعية- حتى يتأكد من صدقها، ولا خبرًا حتى يعلم مطابقته للواقع... فعن أبي قلابة، قال: قال أبو مسعود لأبي عبد الله أو قال: أبو عبد الله لأبي مسعود ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في: "زعموا؟" قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بئس مطية الرجل زعموا"(أبو داود، وصححه الألباني)، بل هو أمر القرآن الكريم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات: 6].
ومن نقل أو شارك كل ما يسمع وتقع عليه عينه، فويل له مما يحمل من الإثم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"(مسلم)، وعن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال: "بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع"(مسلم).
ثم الضوابط كثيرة وهي في الجملة معلومة معروفة، وإن رأينا أن ما نقلنا هنا هو أهمها.
***
وليزداد الأمر وضوحًا وتتبين صورته وأصله، فقد عقدنا هذه المختارة التي انتقينا لها أفضل ما وقفنا عليه من خطب، لعلها تكون خطوة ناجعة نحو ترشيد استخدام هذه المواقع المتعددة للتواصل بين البشر.
التعليقات
زائر
30-12-2020اسوا اختراع