اقتباس
فالخطابة في يد الخطباء سلاح ماض، وحجة قائمة، وبيان مؤيد، ومؤثر لا يُرَد، تغزو القلوب وتقتحم العقول وتقوِّم المعوج وتجمع الناس وتحشدهم، فإن لم يستخدم دعاة الإسلام وخطباؤه هذا السلاح الخطِر فيما ينفع الناس، استخدمه غيرهم في الإضلال والإغواء والصد عن سبيل الله...
إننا لا نبالغ أبدًا حين نقول: إن من يملك ملكة الخطابة ويتمكن من أساليبها ويتقن خفاياها ويطرق أسرارها فقد أوتي السطوة فوق عقول البشر والحظوة داخل قلوبهم... وما أعلم من "زعيم" قاد الناس وخضعوا له "مختارين" إلا وهو خطيب بارع في الخطابة، حتى هؤلاء الحكام الذين تجبروا كهتلر وموسوليني وغيرهما فقد كانوا خطباء بارعين.
كذلك تجد من صفات صفوة خلق الله -عز وجل- من الأنبياء والرسل أنهم كانوا أبرع خطباء الأرض، فهذا نبي الله شعيب -عليه السلام- وقد لُقِب بـ"خطيب الأنبياء"، قد اتخذ من الخطابة أداة لدعوة قومه إلى دين الله -عز وجل-، وقد نقل القرآن إلينا شيئًا من خطبه في قومه، فها هو يقول لهم: (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)[هود: 84-85]، فحُقَّ له أن يكون "خطيب الأنبياء".
وتأتي الشهادة هذه المرة لنبي الله نوح عليه السلام- من قومه أنفسهم إذ قالوا له: (يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا)[هود: 32].
بل هذا نبينا –صلى الله عليه وسلم- يقول عن نفسه: "أعطيت جوامع الكلم"(متفق عليه)، فهو الخطيب المفوه والمقنع الخريت والداعية البليغ الفصيح، فأما عن ضخامة صوته فقد كان صوته -صلى الله عليه وسلم- يصل النساء في البيوت، وأما عن انفعاله وإيمانه وحماسته وصدقه وتفاعله مع ما يقول، فيحدثنا جابر –رضي الله عنه- فيقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم ومساكم"(رواه مسلم).
وأما عن خضوع الحاضرين له -صلى الله عليه وسلم- فيروي أسامة بن شريك فيقول: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أصحابه عنده كأن على رءوسهم الطير"(رواه النسائي).
وأما عن تأثير خطبه -صلى الله عليه وسلم- على السامعين، فقد كانت تدمع منها العيون، وهذا العرباض بن سارية يدلي بشهادته قائلًا: "قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون"(رواه ابن ماجه).
***
وما زال خاصة الناس وأشرافهم منذ أقدم العصور وفي مختلف الحضارات والبيئات يستخدمون الخطابة في شتى المجالات، فقد ظهرت الخطابة الدينية التي يلقيها الكهان أو الرهبان أو الدعاة إلى الله يعلمون الناس دينهم ويعلقونهم بالآخرة..
وظهرت أيضًا الخطابة السياسية التي يستخدمها القادة والزعماء والمتبوعون في سياسة الرعية وضمان ولائها وخضوعها وتبعيتها، فيثيرون الناس تارة يدعونهم إلى حرب المعتدي ودحر المغتصب والانتقام للقتلى والثأر للكرامة.. ويهدئونهم تارة داعين إياهم إلى بناء الأوطان وتشييد الأمجاد وصياغة الحضارات..
وكذلك كانت الخطابة القضائية التي يترافع فيها المحامون يدينون خصومهم ويدافعون عن موكليهم أمام القضاة الذين يستمعون إلى خطاب هذا وذاك ثم يحكمون بما اقتنعوا به من خطاباتهم، فربما حكموا لصالح الظالم وأدانوا المظلوم بسبب تأثرهم ببلاغة الظالم وبراعته في الخطابة حتى يصوِّر لهم أنه المظلوم! ولقد أدرك نبينا -صلى الله عليه وسلم- خطورة ذلك فقال: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار"(متفق عليه).
وظهرت أنواع أخرى كثيرة من الخطابة، منها ما أقره الإسلام ونماه بل وجعله فريضةً أو مستحبًا كالخطابة الدينية، ومنها ما هو مباح ومندوب إليه كالخطب الاجتماعية مثل خطبة النكاح وغيرها، ومنها ما عدَّه الإسلام من أنواع الجهاد كالذود عن الإسلام والرد على خصومه وتفنيد شبهاتهم، وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن يجاهد بسيفه، ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل"(رواه ابن حبان).
ومن أنواع الخطابة ما منعه الإسلام واستهحنه ومن ذلك ما احتوى على سب وتفاخر بدنيا وهجاء للمسلمين، وما يحض على الظلم ومخالفة تعاليم الإسلام.
***
ولطالما كانت الخطابة أداة ناجحة لحسم المنازعات، وتجلية الحقائق، وبيان المشكل، وترقيق القلوب، وقيادة الجموع، وسياسة الأمم... فلما افتقدها موسى -عليه السلام- دعا ربه يستدرك هذا من عنده قائلًا: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي)[طه: 27-28]، وكأنه لم يجد هذا كافيًا فقال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي)[القصص: 34]، ولقد أُجيب.
فالخطابة في يد الخطباء سلاح ماض، وحجة قائمة، وبيان مؤيد، ومؤثر لا يُرَد، تغزو القلوب وتقتحم العقول وتقوِّم المعوج وتجمع الناس وتحشدهم، فإن لم يستخدم دعاة الإسلام وخطباؤه هذا السلاح الخطِر فيما ينفع الناس، استخدمه غيرهم في الإضلال والإغواء والصد عن سبيل الله! وهذا من أخطر ما يكون، لذا فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان"(رواه الطبراني).
وإذا احتل كل منافق عليم اللسان خبيث القلب أغلب وسائل الإعلام في زماننا، وصاروا يبثون سمومهم الماكرة من خلال الخطابة وتنويع أساليب الإلقاء، وأقاموا المعاهد والمؤسسات التي تخرِّج الخطباء المفوهين والمتحدثين المؤثرين... فقد آن الأوان للدعاة المصلحين أن يبرعوا في فنون الخطابة والإلقاء، وأن يتقنوا أساليب البيان والإقناع، وأن يحترفوا فن الوصول إلى العقول واستمالة القلوب، وألا يعتمدوا على مجرد الموهبة الفطرية بل يجهدوا في صقلها بالدراسة والمدارسة والتدريب.
ومساهمة منا في تحقيق تلك الغاية المنشودة وسعيًا لتلك الأمنية المطلوبة فقد صغنا هذا الملف العلمي عونًا لكل مصلح كي يتقن فن الخطابة ويحيط بأساليب الإلقاء، سائلين الله -جل وعلا- أن ينفع به ويكتب له القبول، وقد استقام هذا الملف في أربعة محاور تحت كل محور منها عدد من العناصر، وبيانها كما يلي:
التعليقات