اقتباس
نموذج من خطب أبي بكر الصديق
د. محمد بن سعد الدبل
يقول أبو بكر - رضي الله عنه - من خطبة له:
"الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأومن به، وأتوكل عليه، وأستهدي الله بالهدى، وأعوذ به من الضلالة والردى، ومِن الشك والعمى، ومن يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، يعزُّ مَن يشاء ويُذلُّ مَن يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، أرسله إلى الناس كافة، رحمة لهم، وحجَّة عليهم، والناس حينئذ على شرِّ حال في ظلمات الجاهلية، دينهم بدعة، ودعوتهم فرية، فأعز الله الدِّين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وألف بين قلوبكم - أيها المؤمنون - فأصبحتم بنعمته إخوانًا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبيِّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون، فأطيعوا الله ورسوله، فإنه قال - عز وجل -: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80].
أما بعد، أيها الناس:
إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر وعلى كل حال، ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم، فإنه ليس فيها دون الصدق مِن الحديث خير، مَن يكذب يَفجر، ومَن يفجر يهلك، وإياكم والفخَر، وما فخرُ مَن خلق مِن تراب وإلى التراب يعود، هو اليوم حي وغدًا ميت، فاعلموا وعدوا أنفسكم في الموتى، وما أشكل عليكم فردُّوا علمه إلى الله، وقدموا لأنفسكم خيرًا تجدوه مُحضرًا؛ فإنه قال - عز وجل -: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].
فاتقوا الله - عباد الله - وراقبوه، واعتبروا بمن مضى قبلكم، واعلموا أنه لا بد من لقاء ربكم والجزاء بأعمالكم، صغيرها وكبيرها، إلا ما غفر الله، إنه غفور رحيم، فأنفسَكم أنفسَكم والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد أفضل ما صلَّيتَ على أحد مِن خلقك، وزكِّنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، اللهم أعنَّا على طاعتك، وانصرنا على عدوك"[1].
إن هذه القطعة النادرة من خطب أبي بكر - رضي الله عنه - لَمِن أجود الخُطب الإسلامية بعامَّة، ومِن أجود خطبه بخاصة؛ وذلك لما اشتملَت عليه من المعاني الشريفة السامية في أسلوب جزل رصين؛ فقد راعى - رضي الله عنه وأرضاه - أسلوب هذا النص؛ حيث أفرغه في قالب يُناسبه؛ لأن "المعاني الجزلة لا بد لها من ألفاظ وجمل وتراكيب في غاية الفخامة، والمعاني الرقيقة المستملحة لا بد لها من ألفاظ تناسبها رقة وسلاسة؛ ليحصل التشاكل والتناسق بين النوعين، وتكون المعاني مع الألفاظ كالعروس المجلوة في الثوب القشيب، مع إعطاء كل موضوع حقه مِن شِدَّة العبارة ولينها في النطق، ليكون ذلك أدل على المعنى"[2].
إن هذه الخصائص الفنية مجتمعة قد تحقَّقت في نص هذه الخطبة، وكان الباعث عليها ما استقر في قلب قائلها من الإيمان بالله وحده، والإيمان بمحمد ورسالته التي هي الإسلام دون ما سواه.
ولا أحد يجهل مكانة أبي بكر الصديق في الجاهلية؛ من حيث تحليه - رضي الله عنه - بالقيم الإنسانية الرفيعة التي جمَّلتها سلامة منطقه وسموُّ بلاغته، فكان لزامًا أن تأخذ هذه البلاغة مكانتها في كلامه تأثُّرًا بهدي الإسلام من خلال الهدي القرآني والكلام النبوي الشريف؛ ولذلك لا نجد في ألفاظ خطبته هذه ما يكدِّر صفو المعنى مِن لفظ وحشي غريب أو ذي تنافر، أو بعْدٍ عن حد الفصاحة.
وإنما هي ألفاظ سهلة سلسة مُنتقاة، ولا نجد في المعاني التي عبر عنها معنى مُستغلقًا أو ساقطًا مَرذولاً، أو عاميًّا مُسفًّا، أو غامضًا مُستكرَهًا.
ولا نجد أثرًا للصنعة المتكلَّفة؛ فقد عريت أجزاء هذه الخطبة مِن زخرف القول، حتى بانَ في معانيها تلاحق الفقرات من غير عناء؛ لأنها من قبيل الوعظ والإرشاد في طابع إسلامي رصينِ النسج، محكَم العبارة، يتخلله درر من آيات الله البينات؛ لإقامة الحُجَّة والبرهان على المعاني التي سيقت في ثنايا النص.
وتكاد تكون خطب الخلفاء والحكام والولاة طوال صدر الإسلام والعهد الأموي، وصدر من العهد العباسي من هذا اللون المُشبَع بالدليل والاقتباس، وسَوق الحكمة والمثُل، والبعد عن تكاليف الصنعة والزخرف البديعي، ونلحظ عنصر التأثير كامنًا في عبارات الخطيب على نحو ما ورَد في جمل خطبة أبي بكر - رضي الله عنه - غير أن هذا التأثير في هذه الخطبة ليس وليد عاطِفة مُثارة، وإنما وليد عبارة مُحكَمة مؤيَّدة بصدق الكلمة ووضوح الدليل.
ولذلك جاء "أسلوب العرض متماسكًا متلاحم الأقطار، لم يضعفه التفكك وتخلخل الفكرة، جاء مرتبًا غير مضطرب، واضحًا بعيدًا عن اللبس والاحتمال، قاطع الدلالة على الغرض، صادقًا لا يتسرب إليه الريب"[3].
[1] العقد الفريد ص 128، 129 جـ4 لابن عبد ربه، تحقيق: محمد سعيد العريان.
[2] الخطابة للشيخ علي محفوظ ص 52، الطبعة الرابعة، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
[3] الخطب والمواعظ لمحمد عبدالغني حسن ص 44، طبعة دار المعارف بمصر 1955م.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم