اقتباس
تأمل ترى أمة متخبطة مترددة مقودة لا قائدة تابعة لا متبوعة مسبوقة لا سابقة، عالة على غيرها في كل مجال، اللهم إلا في قوة حناجرها التي تطحن في غير طحين، وتسبح في غير نهر، حتى صدق فيهم قول القائل...
"أن يصلح الله حالك" لهي أعظم نعمة عليك من ربك، أن يصلح الله حالك يعني: أن يقيمك على دينه إقامة، وأن يريح بالك، ويطمئن قلبك، وييسر أمورك، ويخفف أعباءك، ويزيل آلامك، ويفرج كروبك، ويصوِّب عقلك، ويؤيد جنانك، ويبعدك عن المعاصي، ويوفقك إلى الطاعات، ويزيدك من القربات، ويحميك من ظلم الظالمين ومن حقد الحاقدين ومن حسد الحاسدين...
"أن يصلح الله حالك" كلمات تجمع كل جميل، وتنتظم كل رائع، وتدل على كل توفيق، وتؤسس لكل نجاح... هي كلمات أولها راحة النفس وطمأنينتها، وآخرها رضوان الله -تعالى- وجنته.
هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي فمعناها: أن يرفع الله الغمة عن الأمة، وأن يردها إلى دينها ردًا جميلًا، وأن يقيم أبناءها على الصراط المستقيم، وأن يعلق قلوبهم بالمعالي ويزهدهم في التوافه والسفاسف، فـ: "إن الله -عز وجل- يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها"(رواه الطبراني في الأوسط)...
معنى صلاح حال الأمة أن يعود لهم اعتزازهم بدينهم وبنبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وأن ترجع إليهم هيبتهم وثقتهم بأنفسهم، وأن يصبحوا سادات للدنيا وقادة للعالم كله...
إن صلاح الحال يعني أن يعيش المجتمع المسلم في انسجام وسلام لا يعرف النزاع والخصام، يعيشون أمنا نفسيا وأسريا واجتماعيا ورخاء اقتصاديا، يتقلبون بين نعم الأهل والأولاد، وسعادة الأرواح وصحة الأجساد.
صلاح الحال أن يحل بالمجتمع الخير فتتنزل عليهم العطايا والهبات والرضى من رب السموات، وتهب عليهم سحائب الرحمات بالغيث المدرار فيحي الأرض بعد أن كانت موات فتخرج بفضله الثمرات والأقوات؛ قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96].
صلاح الحال أن تكون في حياتك موفقا وفي قراراتك صائبا وفي أرزاقك مباركا وفي أقوالك مسددا وفي مواقف الشجاعة ونصرة الحق ثابتا.. صلاح الحال أن تكون في مرضاة الله معانا وفي طاعته مقبلا وعن معاصيه مدبرا ومع أقداره صابرا محتسبا.. صلاح الحال أن يرزقك الله الزوجة الصالحة والذرية البارة والجار الصالح والصديق النصوح.. صلاح الحال هو استقامة الأسرة على طاعة الله وقيامها بحقه وتواصيها على البر التقوى، وتربيتها على العفاف والغيرة والستر والاحتشام وتنشئتها على القرآن والسنة.
***
لكن للأسف إن أمتنا اليوم تشكو سوء حالها وتنتحب لأوضاعها؛ فنظرة واحدة إلى حال الأمة كفيلة بأن تبعث الأسى والحزن في القلوب وتدميها؛ إنك حين تنظر ترى أمة تائهة لاهية غافلة، مرتمية في أحضان أعدائها! متشككة في صلاحية دينها لقيادة حياتها! حتى إنك لتتساءل: أهؤلاء أمة محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! أهؤلاء أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وخالد...! أهؤلاء أبناء صلاح الدين وقطز وبيبرس وطارق بن زياد...
من هؤلاء الضائعون؟ أفهؤلاء المسلمون؟! *** الفاسدون، المفسدون، الظالمون، المظلمون
من هؤلاء الخانعون؟ أفهؤلاء المسلمون؟! *** أبدًا تكذِّبني وترجمني الحقائق والظنون!
وإن نظرة متأملة إلى شبابنا -الذين يناط بهم النهوض بالأمة- لتؤكد أن الطريق شاق وطويل ومليء بالعوائق والعراقيل... لكن مهما كان طريق الإصلاح شاقًا وطويلًا فليس أمامنا إلا أن نسلكه في صبر وإصرار وعزم وبأس وقوة، واضعين نصب عيوننا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا"(رواه أحمد)، وقد قالوا: "بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى".
ومهما كان الأمر متأزمًا وصعبًا فلن يكون أبدًا كتلك الجاهلية الجهلاء التي بُعث فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث يسجد الناس للأصنام، ويأكل القوي الضعيف، وتدفن البنات أحياء... فما زال النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم ويجاهد في دعوتهم حتى صنع منهم "خير أمة أخرجت للناس".
ومن تساءل: من أين يبدأ الإصلاح؟ أجبناه: البداية هي العودة لدين الله -تعالى-؛ فما تخلَّف المسلمون ولا تأخروا إلا بسبب بُعدهم عن إسلامهم، ورحم الله عمر بن الخطاب حين قال: "إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"(رواه الحاكم).. فصلاح الحال لا يكون إلا بالإيمان والعمل الصالح: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)[محمد: 2].
وثانيًا: الاتحاد بين المسلمين: فهي فريضة على المسلمين أن يتحدوا ولا يتفرقوا، قال الله -تعالى-: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]، فلا بد ليتحقق النصر أن يكون المسلمون أمة واحدة كما أمر الجليل -عز وجل- مرارًا وتكرارًا: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 92]، وما أصاب الأمة ما أصابها من تردٍ وضياع إلا حين خالفت هذا الأمر الإلهي فتفرقت وتشرذمت وتقطعت:
إني أكـاد أن أعتد وحدتنا دينًا *** وأن افــتراق الـشمل إلحاد
وثالثًا: بيع الدنيا بالآخرة: ولا تكون القوة الحقة إلا لمن طلب الجنة وتمناها حتى هانت عليه الدنيا وزينتها، وهذا ما خوَّف به خالد بن الوليد -رضي الله عنه- والي كسرى حين قال له: "أتيتك بأقوام أحرص على الموت منكم على الحياة"( السيرة النبوية، لابن حبان)، بل لقد عدَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق"(رواه مسلم).
وهناك رابعًا وخامسًا وعاشرًا من أسباب الإصلاح، لكننا لن نستطيع حصرها هنا في هذه العجالة، لذا فقد تركنا المجال لخطبائنا ليفصِّلوا الأمر ويؤصلوه ويزيدوه وضوحًا وجلاء، وهاك طائفة من خطبهم:
التعليقات
زائر
19-02-2021السلام عليكم ، والله أثلجتم صدري بهذه الكلمات وفقكم الله وجزاكم خيرا والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته