الإسلام رسالة إصلاح

سامي بن عبد العزيز الماجد

2012-02-19 - 1433/03/27
عناصر الخطبة
1/ الإسلام دين إصلاح 2/ استصلاح الحياة هو شأن الرسالات السماوية كلها 3/ محاربة الفساد من مقاصد الشريعة 4/ أعظم الاحتساب في الشريعة 5/ العدل في إيقاع العقوبة

اقتباس

لو شئت أن تصف الإسلام بأوجز وصف وأصدقِه لكان لك أن تقول: هو رسالة إصلاح. فهذا الوصف يطابق حقيقة رسالة الإسلام أتم مطابقة؛ لأن للإسلام عملاً ذا أثر في حياة الفرد والمجتمع، يجعل من إصلاح حياة المعاش إصلاحاً لحياة المعاد، فهو يُصلح صلة العبد بربه، وصلةَ المجتمع بعضِه ببعض، يصحح مسار التعبد ليجعل الناس كلَّهم متعبّدين لله ـ سبحانه ـ ، يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

 

 

 

 

 

أيها الأحبة في الله: لو شئت أن تصف الإسلام بأوجز وصف وأصدقِه لكان لك أن تقول: هو رسالة إصلاح. فهذا الوصف يطابق حقيقة رسالة الإسلام أتم مطابقة؛ لأن للإسلام عملاً ذا أثر في حياة الفرد والمجتمع، يجعل من إصلاح حياة المعاش إصلاحاً لحياة المعاد، فهو يُصلح صلة العبد بربه، وصلةَ المجتمع بعضِه ببعض، يصحح مسار التعبد ليجعل الناس كلَّهم متعبّدين لله ـ سبحانه ـ ، يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

يصلح معاشَ الناس بإقامة الفضائل والقيم ومدافعةِ الرذائل والظلم والبغي وسائر صور الفساد.

يدافع الإسلام عن كل مظلوم في أرضه ولو كان كافراً، ويجاهد كلَّ ظالم ولو كان مسلماً.

ويطعن في رسالة الإسلام وينتقص من قدره وكماله، ويستصغر من شأنه مَن يقول: إن الإسلام مَعنِيٌّ بأمر الآخرة غير معنيّ بأمر الدنيا. فما يقول هذا إلا جاهلٌ بحقيقة رسالة الإسلام، مُشَوَّشُ التفكير بتأثير بيئته التي سُيِّس فيها الإسلام وجُيِّر للأهواء والمطامع. فهذا التلفيق للدين وتهذيبه هو الذي جعل كثيراً من العقول تستكثر على الإسلام أن يكون له شأنٌ في استصلاح الدنيا.

ومن رام أن يتعرف على دين الإسلام من الواقع فلن يجد له إلا صوراً مشوَّهة، وسيضِل السبيل عن حقيقة الدين بكماله وصفائه؛ لأن كثيراً مما يمارس من إعمال الشريعة إنما هو تطبيق مبتسر مهذب تُرضي الأهواء أكثرَ مما تُرضي الله سبحانه.

وتوهَّم أقوام أن دعوة الإسلام إلى الزهد والورع والتلبس بلباس القناعة والرضا في هذه الدنيا فيها أعظمُ الدلالة على أن الدينَ معني بإصلاح الآخرة فحسب، وأن إصلاحَ شؤونِ الدنيا لتستقيم للناس ليس من مقاصد الإسلام في شيء. بل يعدون ذلك من سِمات الإخلادِ إلى الأرض والرضا بها دون الآخرة.

وأقول رداً لهذه الشبهة: إن الزهد والورع الذي أمر به الإسلام وحض عليه إنما هو زهدُ الفرد وورعُه في خاصَّةِ نفسِه، أُمر به من أجل أن يمنعه عن البغي والظلم والعدوان والكِبر والاستعلاء، وخشيةَ التّلهي عن إصلاح النفس وتهذيبها بشعائر التعبد، بل إن هذا الزهد المأمور به يهدف ـ فيما يهدف إليه ـ إلى إصلاح شئون الدنيا كما الآخرة؛ فالنفس إن لم تُزمّ بزمام الورع والزهد والقناعة تمادت في أطماعها فاجترأت على الظلم والبغي والفحشاء والمنكر، وصار عطبها أقرب من صلاحها، وكان هذا مظِنةَ الإفساد في الأرض.. لذا حضت الشريعةُ على الزهد والورع وما كان من بابهما.

أما الأمة في مناصبها وقياداتها فغير مأمورة بالزهد في أعمالها التي تقوم به على المجتمع، فكل ذي ولاية مأمورٌ في ولايته بحسن التنظيم والتخطيط للمستقبل البعيد، ومأمورٌ بتيسير شئون المعاش للناس وبتوفير رغد العيش لهم، ولا مدخل للزهد في هذه الأعمال، وإذا كان لأصحاب الولايات من زهد فليكن في خاصة أنفسهم.

وأقول ما هو أبعد من ذلك : إن الإسلام لم يكن في هذا الشأن بأوحد، فاستصلاح الحياة هو شأن الرسالات السماوية كلها، فما من رسول إلا وكانت رسالته رسالة إصلاح، فقد جاء في القرآن على لسان صالح وشعيب وموسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام (وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، وقال شعيب لقومه: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، وقال صالح لقومه: (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)، وكذلك موسى: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)، وقال قوم قارون ناصحين له (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

يقول ابن تيمية: "وأمور الناس تستقيم فى الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم"، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي: "ليس ذنب أسرع عقوبةً من البغي وقطيعة الرحم"، فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة" اهـ.

يقول ابن القيم في قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، قال: "القسط هو العدل الذي قامت عليه السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارت الحق وقامت أدلة العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره" اهـ.

أيها الأحبة في الله: وإذا كان الإسلام رسالة إصلاح يعم كل إصلاح، فإن ذلك يعني محاربته لصور الفساد كلها، ولذا لا يجوز أن يحصر مفهوم الفساد فيما هو متعلق بالأعراض كالتبرج والسفور والاختلاط ومواقعة الفواحش.. إن لفظ الفساد لفظ عام فليعم جميع أفراده.. يجب أن يطلق وصف المفسد على كل من عمل عملاً فيه فساد وإفساد للناس في شئون معاشهم أو معادهم.

من يدعو إلى التفسخ والاختلاط ويغري بالفواحش مفسد ولا شك، مستحق للنكال والعقوبة؛ ولكن يجب ألا يتعفف المجتمع عن إطلاق هذا الوصف على كل من أفسد على الناس شئون معاشهم، وأكل أموالهم بالباطل وصادر حقوقهم، وعرَّضهم للهلكة، وعطّل مصالحهم، واختلس من ثروات وطنهم ومقدَّراتِه... فهذا مفسد في شرع الله مبغَّض إلى الله، ليس بأقل جرماً من غيره، فيجب ألا تتعامى عنه العيون، وهي تبحث عن رموز الفساد في البلاد.

يجب أن يُعلم أن محاربة الفاسدين مالياً وإدارياً من أعظم الاحتساب في الشريعة، ويجب أن يكون معدوداً من الجهاد في سبيل الله؛ فبسبب هؤلاء هلك من هلك في كارثة جدة، وتشرد من تشرد من المساكين والضعفاء...

 

 

الخطبة الثانية:

أما بعد: فإنه لمؤسف أن تتوجه الأنظار ـ بعد كل كارثة ـ إلى براعم الفساد المستنبتة في غصون الكبار؛ ليكونوا كبش الفداء في المأساة، ويسلم الكبير كل مرة.

إنه ليس من الشرع في شيء أن يقام الحد أو العقوبة على المجرم الصغير وحده، وهو عمل مؤذن بالهلاك، «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد»، ولا يصلح الحال إلا بإنفاذ قاعدته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن: «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها».

مؤسفٌ ـ كذلك ـ أنه كلما وقعت كارثة تشاغل الناس بقضية عن قضية أهم وأكبر.. يتشاغلون بالتساؤل : هل ما وقع عقوبة أم ابتلاء؟ وكان عليهم ساعتَها أن يدينوا أنفسهم قبل كل تساؤل بأن ما وقع إنما كان بسبب سكوتنا عن إدانة المجرم والإنكار عليه ومحاربة فساده قبل أن تحل المصيبة بضعفائنا.

وستتكرر المأساة بصور مختلفة ما دمنا متشاغلين عن إصلاح الفساد ومحاربته بمثل هذا التساؤل الذي نلقيه على مسمع المفجوعين الضعفاء؛ لنزيد من جراحهم ونشعرهم بأننا نشمت بهم أكثر مما نواسي... أما المجرم الكبير فيخرج سليماً معافى كل مرة، يتوارى خلف الستار ومعه صك براءة؛ لأن ما حل إنما هي عقوبة سماوية، لم تكن له يد فيها....

 

 

 

 

المرفقات

رسالة إصلاح

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات