اقتباس
يقال: أن العهد أو المعاهدة ما كانت بين الدول والجماعات، وأن الوعد ما كان بين الأفراد... وعلى كل حال فإن كلاهما مذموم منهي عنه ومنفَّر منه، بل هما من كبائر الذنوب -والعياذ بالله-؛ فقد عدَّهما كثير من العلماء كذلك، فهذا الإمام الذهبي يقول في "الكبائر": "الكبيرة الخامسة والأربعون: الغدر وعدم الوفاء بالعهد...
لو اختُرِع للنفاق منظار حساس يكشفه ويفضحه؛ يلبسه المرء على عينيه فيرى المنافق الكامل من خلال المنظار مكتسيًا كله باللون الأزرق -مثلًا-، لو حدث ذلك ولبستَ ذلك المنظار لرأيت من خلاله كثيرًا من الناس وقد غطى اللون الأزرق ثلثه أو ثلثيه أو ربعه أو نصفه أو ثلاثة أرباعه... أقصد أنك سترى أغلب الناس بثلث نفاق أو ربع نقاق أو نصف نفاق أو بنفاق كامل!
لكن من الذي قال بأن النفاق يتجزأ، وأن الإنسان قد يكون ثلث منافق أو ربع منافق وبقيته مؤمن؟!
أجيب: القائل هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"(متفق عليه)، فها هو النفاق أربعة أرباع؛ من جمعها كلها فهو منافق خالص كامل، ومن تلطخ ببعضها فهو يمشي بجزء من النفاق!
أما أبو هريرة -رضي الله عنه- فيروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قسَّمه أثلاثًا فقال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان"(متفق عليه).
ومن الملاحظ في هذين الحديثين الشريفين أنهما ذكرا خصلة واحدة بصيغتين مختلفتين؛ فالأول يقول: "وإذا عاهد غدر"، والثاني يقول: "وإذا وعد أخلف"، فهل بين "الغدر بالعهد" و"خلف الوعد" تغاير واختلاف؟
نقول: نعم؛ هناك اختلاف، لكنه ليس كبيرًا، يقول العلماء: "الفرق بين الوعد والعهد: أن العهد ما كان من الوعد مقرونًا بشرط، نحو قولك: "إن فعلتَ كذا فعلتُ كذا، وما دمت على ذلك فأنا عليه"، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ)[طه: 115]؛ أي: أعلمناه أنك لا تخرج من الجنة ما لم تأكل من هذه الشجرة"( الفروق اللغوية، للعسكري)، فإن لم يكن مشروطًا بشرط فهو وعد.
ويمكن أن يقال: أن العهد أو المعاهدة ما كانت بين الدول والجماعات، وأن الوعد ما كان بين الأفراد.
وعلى كل حال فإن كلاهما مذموم منهي عنه ومنفَّر منه، بل هما من كبائر الذنوب -والعياذ بالله-؛ فقد عدَّهما كثير من العلماء كذلك، فهذا الإمام الذهبي يقول في "الكبائر": "الكبيرة الخامسة والأربعون: الغدر وعدم الوفاء بالعهد"، وهذا ابن حجر الهيتمي في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" يعُدَّ عدم الوفاء بالعهد على أنه الكبيرة الثالثة والخمسون...
***
ولخلف الوعد ونقض العهد ألف صورة وصورة، فأبشعها وأفظعها هو نقض العهد مع الله -عز وجل-، ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن العاقبة المشؤومة لمن نقض عهده مع ربه، فقال: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[التوبة: 75-77]، نعم؛ عاقبة خلف الوعد مع الله هي النفاق في القلب -والعياذ بالله-، وهو كذلك من صفات الفاسقين الخاسرين: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[البقرة: 26-27].
وهو -أيضًا- عصيان لله -تعالى- الذي أمر قائلًا: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)[الأنعام: 152]، وأكَّد قائلًا: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ)[النحل: 91]، وتوعد المخالف: (وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا)[الأحزاب: 15].
ومن صور خلف الوعد: نقض العهود والمواثيق مع الدول والأمم، وهو سبب لتسلط الأعداء على الأمة الإسلامية، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن..."، فكانت إحدى تلك الخصال: "ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم"(رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
ومن صوره: إخلاف الوعد مع الناس من حوله؛ كأن يقول: آتي ثم لا يأتي، أو أعطيك ثم لا يعطي، أو أفعل ثم لا يفعل... وهذا من فعل الناس اليوم كثير متكرر ولا يكاد يسلم منه إلا من رحم الله -تعالى-.
***
والحق أن لمخلف وعده حالات عديدة، قد لخصها عبد الرحمن حبَنَّكة الميداني -رحمه الله- حين أفاد ما يلي: من يخلف الوعد له أربع أحوال في إخلافه بذلك:
الحالة الأولى: التعبير العملي عن الكذب منذ إعطاء الوعد أو العهد، وهو في هذا يحمل رذيلة الإخلاف المستند إلى رذيلة الكذب.
الحالة الثانية: النكث والنقض لما أبرمه والتزم به من وعد وعهد، وهذا يعبر عن ضعف الإرادة وعدم الثبات، وعدم احترام شرف الكلمة وثقة الآخرين بها، وهذا الخلق يفضي بصاحبه إلى النبذ من الفضلاء الذين يوثق بهم وبأقوالهم.
الحالة الثالثة: التحول إلى ما هو أفضل وخير عند الله، والانتقال إلى ما هو أكثر طاعة لله، وذلك كالعهد مع الله في التزام أمر من الأمور، فقد تجري المفاضلة بينه وبين غيره، لاختيار ما هو أقرب إلى طاعة الله وتحقيق مرضاته.
الحالة الرابعة: العجز عن الوفاء لسبب من الأسباب، ومن عجز عن الوفاء مع صدق رغبته به، وحرصه عليه، فهو معذور لعدم استطاعته.
وأما حالة النسيان فهي من الأمور العامة التي تشمل كل واجب أو مستحب، وتنطبق عليها أحكام النسيان العامة.
وهنا خطب عدة لعدد من المشايخ الكرام بسطت هذا الموضوع وتحدث عنه من جوانب عدة؛ فإليكم هذه الخطب مستعينين بالله -تعالى وحده-.
التعليقات