اقتباس
الوطن هو الأرض التي مشينا وتربينا وعشنا عليها، وهو السماء التي تظلنا وتضيء لنا بشمسها النهار وتنير لنا بقمرها الليل، وهو الماء الذي نشربه، والهواء الذي نستنشقه، والتراب الذي نطئوه .. وهو الطرقات التي نسلكها، والمساجد التي نصلي فيها، والمدارس التي نتعلم فيها، والحدائق التي نخرج إليها، وهو بيوتنا وأموالنا وأهلونا وآباؤنا وأمهاتنا وأولادنا وجيراننا وأصحابنا وزملاؤنا، وهو العلماء الذين نشأنا على أيديهم..
وأقول -ولا أشك- إنها فطرة داخل كل قلب نقي؛ أن يحب المكان الذي ولد فيه ويصونه ويحميه، فطرة أدركها أهل الهند قديمًا فقالوا: "حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك"، ويُحكى في القصة الرمزية أن ملكًا قال للبازي الذي يملكه: لقد مللت من قصري وما حولي، وأنت تطير وتحلق وترى من جمال البلاد ما لا أرى، فخذني إلى أجمل مكان على وجه الأرض، وانطلق البازي يتبعه الملك وحاشيته، فمر بهم البازي على حدائق غناء رائعة الخضرة والجمال ولم يقف فيها، فقال الملك: لا بد أنه يقودنا إلى مكان أجمل، ثم مر بهم على شواطئ البحار ذات الحسن والإبهار لكنه أيضًا لم يقف، فزاد تعجب الملك ومن معه، ثم مر بهم على المدن شاهقة الأبنية فائقة التصميم والإنشاء، لكنه أبدًا لم يقف، حتى خرج الصحراء ومشى في قفارها طويلًا، ثم رأى جبلًا عظيمًا فحلق فوقه، وصعد خلفه الملك وحاشيته، حتى إذا بلغ البازي قمة الجبل قال: أيها الملك، ها هنا أجمل بقاع الأرض! وعندها جن جنون الملك وصرخ في البازي متعجبًا مستنكرًا قائلًا: "مررت بنا على الحدائق الغناء ثم على الشواطئ البديعة ثم عبرت بنا المدن الرائعة.. ثم ها أنت تأخذنا إلى الصحراء القاحلة المحرقة وتقول عن قمة جبل مهجورة موحشة أنها أجمل بقاع الأرض؟! فكيف ذلك؟!"، وعندها أجابه البازي بكلمة واحدة فسَّرت كل شيء: "هذا مكان وُلدت فيه".
وحب الأوطان وكراهية مفارقتها فطرة أدركها حتى الشيطان فحاول استغلالها لصد الناس عن الهجرة في سبيل الله؛ فعن سبرة بن أبي فاكه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه.. ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر.."(النسائي في الصغرى والكبرى).
وتروي كتب التاريخ أن معاوية تزوج امرأة من البادية اسمها: ميسون بنت بحدل بن أنيف الكلبية، فأسكنها الخضراء بدمشق، فأقامت عنده مدة، ثم حنت إلى وطنها فانطلق لسانها بهذه الأبيات:
لبيت تخفق الأرواح فيه *** أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني *** أحب إلي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي *** أحب إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج *** أحب إلي من نقر الدفوف
وكلب ينبح الأضياف عني *** أحب إلي من هِرٍ ألوف
وبكر تتبع الأظعان صعب *** أحب إِلي من بغل زفوف
وخرق من بني عمي كريم *** أحب إلي من علج عليف
خشونة عيشي في البادية أشهى *** إلى نفسي من العيش الظريف
فما أبغي سوى وطني بديلاً *** فحسبي ذاك من وطن شريف
وسمعها معاوية فقال: "أنا العلج العليف!"، فطلقها وردها إلى أهلها، وذلك بعد ما ولدت يزيد.. وحب الوطن فوق أنه فطرة فهو دين؛ فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلتفت إلى مكة ليلة الهجرة ويناجيها قائلًا: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"(الترمذي)، ولما اشتد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فراق وطنه سلاه ربه -عز وجل- قائلًا: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)[القصص:85]؛ فعن ابن عباس قال: (لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ): "إلى مكة"(البخاري)، قال القتيبي: "معاد الرجل: بلده؛ لأنه ينصرف فيعود إلى بلده".
ثم لما طال عليه الأمر دعا -صلى الله عليه وسلم- ربه أن يجعل المدينة وطنًا ثانيًا له وللصحابة يحبونها كحبهم لوطنهم الأول مكة، فقال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"(متفق عليه)، وقد استجاب الله -سبحانه وتعالى- لدعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فصار -صلى الله عليه وسلم- يحب المدينة ويشتاق إليها؛ فعن أنس -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر، فنظر إلى جدرات المدينة، أوضع [أسرع] راحلته، وإن كان على دابة حركها؛ من حبها"(البخاري)، بل وكان يحب كل جزء فيها حتى جبالها؛ فعن أنس بن مالك -أيضًا- يقول: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- راجعًا وبدا له أحد، قال: "هذا جبل يحبنا ونحبه" ثم أشار بيده إلى المدينة، قال: "اللهم إني أحرم ما بين لابتيها، كتحريم إبراهيم مكة، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا"(متفق عليه).
يقول الذهبي: "وكان -صلى الله عليه وسلم- يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب أسامة، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أحد، ويحب وطنه..".
بل نقول أكثر من ذلك، ونذهب إلى أبعد من مجرد أن حب الوطن دين وفطرة فنقول: إن في تراب الوطن شفاء، ودليلنا على ذلك ما روته عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض، ثم رفعها: "باسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، ليشفى به سقيمنا، بإذن ربنا"(متفق عليه)، "قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا هنا جملة الأرض، وقيل أرض المدينة خاصة لبركتها". قال النووي: "ومعنى الحديث: أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء، فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل، ويقول هذا الكلام في حال المسح، والله أعلم"، وفي فتح الباري: "وزعم بعض علمائنا أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه، مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها..".
وقال الجاحظ: "وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع". وما مر من كلام فهو -على صدقه وجماله-: كلام نظري، أما الكلام العملي فبدايته أن نسأل: إذا كان للوطن كل هذا الفضل والقدر والمكانة، فما هو واجبنا نحو أوطاننا؟ ونجيب: الواجب الأول: أن نحبه: فقد مر بنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"(متفق عليه)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لمكة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي.."(الترمذي). الواجب الثاني: المحافظة على تدين المجتمع وأخلاقه وقيمه: صيانة له من الإهلاك والعذاب، فكل بلدة فسقت واستخدمت نعم الله في العصيان أُهلكت وعُذبت، مصداق ذلك قول الله -عز وجل-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء: 16]، وقوله -عز من قائل-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل112].
الواجب الثالث: بناؤه وتعميره والترقي به: فقد حثنا الإسلام على تعمير الوطن بكل أنواع التعمير، فقال رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم-: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"(أحمد)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة"(متفق عليه)، ومثل الزراعة الصناعة والتجارة.. الواجب الرابع: الحفاظ على أمنه واستقراره ووحدة كلمته: ومحاربة كل ما من شأنه تفريق المجتمع الإسلامي الواحد، امتثالًا لقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103]، وتطبيقًا لقوله -عز وجل-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)[الأنبياء: 92].
الواجب الخامس: نشر التكافل والتعاون بين أهله: فعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(متفق عليه)، وقد مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأشعريين قائلًا: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، بالسوية، فهم مني وأنا منهم"(متفق عليه).
الواجب السادس: حمايته والدفاع عنه؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه سعيد بن زيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد "(النسائي في الصغرى)، ونتساءل: أين يُحفظ المال ويصان؟ وأين تستقر الأم والابنة والزوجة والعمة..؟ وأين تقام شعائر الدين؟ وأين تحصن النفس وتعصم؟ أليس في أرض الوطن وعلى أرض الوطن؟! فالدفاع عن الوطن هو في الحقيقة دفاع عن المال والأهل والدين والدم.. هذه واجبات ست، ثم الواجبات بعد ذلك لا تكاد تنقطع، وقد جمعنا باقة زاهرة من الخطب المفيدة لتجلية طائفة أخرى من حقوق الأوطان وثمرات حبها، فهذه هي:
التعليقات