اقتباس
أيها المسلمون: فإن اللغة العربية شعار الدين ووعاؤه، والقرآن لا يقرأ، كما أنزله الله تعالى، إلا بالعربية، ولا يتعبد بتلاوته، إلا بها، وكل النصوص التي جاء فيها فضل قراءة القرآن؛ فإنما مرادها قراءته بلسان العرب، ومن هنا كان تعلم اللسان العربي لكل مسلم دائرا بين الواجب والمستحب؛ فبها ما لا تتم العبادة إلا به، كقراءة الفاتحة؛ فلا بد أن يقرأها الأعجمي بلسان عربي، ولا تغنيه ترجمتها أو فهم معانيها شيئا، ولا...
المجتمعات العاشية والينبوع الذي ترتوي منه العقول الصادية.
لغةٌ إذا وقعَت على أسماعنا****كانت لنا بردًا على الأكبادِ
ستـظلُّ رابطةً تُؤلِّفُ بيننا*****فهي الـرجاءُ لناطقٍ بالضادِ
وإذا طلبتَ من العلومِ أجلَّها****فأجلُّها منها مُقيمُ الألسُنِ
أيها المسلمون: فإن اللغة العربية شعار الدين ووعاؤه، والقرآن لا يقرأ، كما أنزله الله تعالى، إلا بالعربية، ولا يتعبد بتلاوته، إلا بها، وكل النصوص التي جاء فيها فضل قراءة القرآن؛ فإنما مرادها قراءته بلسان العرب، ومن هنا كان تعلم اللسان العربي لكل مسلم دائرا بين الواجب والمستحب؛ فبها ما لا تتم العبادة إلا به، كقراءة الفاتحة؛ فلا بد أن يقرأها الأعجمي بلسان عربي، ولا تغنيه ترجمتها أو فهم معانيها شيئا، ولا تصح صلاته إلا بها.
ولقد أصحبت اللغة العربية ملءُ الأسماع وملءُ القلوب، يتحدث بها مئات الملايين منْ سكان هذه الأرض، وتهوي إليها قلوب آلاف الملايين منَ المسلمين؛ لأنَّها لغة القرآن، قال تعالى: (لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10]. ومما يزيدها شرفا ومكانة؛ أنها لغة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- فهي أغنى اللغات بالمفردات والمترادفات؛ لها عذوبة في اللفظ ونغم في النطق وجمال في الحديث؛ يقول الشافعي -رحمه الله-: "أوسعُ الألسِنة مذهبًا، وأكثرُها ألفاظًا، ولها مكانتُها العُظمى في هذا الدين".
كما أن للغة العربية؛ خصائص تختص بها دون غيرها؛ فهي أثرى اللغات التي تنبعث التراكيب المختلفة للكلمات من الأفعال نفسها بثراء منقطع النظير وقوة عجيبة؛ فهيَ لغة لها صلة وثيقة بالطبيعة والبيئة التي نشأت وتكونت منها؛ فمن تلك البيئة وأصواتها الطبيعية نشأتِ الكثير من الأسماء والأفعال، حتى كأن الإنسان وهو يتحدث بهذه اللغة الجميلة يشعر أنه جزء مِن هذه البيئة، ويربط هذه اللغة ترابط محكم بالمجتمعِ الذي تطورت فيه؛ لأن المجتمع العربي الذي سادت فيه اللغة العربية، له نمط شجريّ وفيه اتساع وترابط وانحدار؛ فهو مجتمع يختلف عن المجتمعات الأخرى، فيهِ تفاصيل كثيرة؛ فهو قبائل وأنساب وبطون وأفخاذ، وأسر ومجتمعات، وعلى صورة هذا المجتمع الرحب انبرى الكلام، وجرى اللسان، ونَمت ألفاظ لغة الضاد في وسط فسيح، وبيئة ثرية تنبت الألفاظ، ويتقارع أهلها بنوادر الكلم وفصيح اللسان، والشعر والنثر الذي لا يزال محفوظاً حتى اليوم، حفظه كماله، وحسنه وجماله. وإذا أردت أن تعرف دور اللغة في فهم القرآن والتأثر به؛ فاسمع هذه الحكاية الطريفة عن الأصمعي حيث يقول: خرجت ذات ليلة, وفيما أنا سائر إذ بصرت بطفلة لم تتعد التاسعة من عمرها تنشد هذه الأبيات:
أستغفرُ اللهَ لذنبي كُلِّهِ *** قتلتُ إنسانا بغَيْر حِلِّهِ
مثل غزالٍ ناعم في دَلِّهِ *** وانتصف الليلُ ولم أُصَلِّهِ
فقلت لها: يا هذه, قاتلك الله! ما أبلغك على صغرك! فأجابت: ويحك! أبعد هذا فصاحة بجانب قول الله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7]؛ فقد جمع فيها -سبحانه- بين أمرين، ونهيين، وبشارتين، في آية واحدة!. أيها المسلمون: نحن لا نطالب الناس اليوم بأن يكونوا أمثال سيبويه وابن عقيل وغيرهم؛ من أعلام اللغة والبيان والشعر واللسان، ولكننا نريد أن يتعلموا منها ما يعينهم على تدبر كتاب الله، وتذوق ألفاظه، وفهم معانيه، والتعمق في مقاصده ومراميه، لأجل تطبيقه والعمل به؛ لأن العربية أساس هويتنا؛ يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "تفقهوا في الدين، وتعلموا العربية".
وإن مما يدمي القلب اليوم حال المسلمين مع اللغة العربية؛ فقد أضحت لدى كثير منهم في خفوت، ورياحها الشذية العبقة في هفوت، ورحم الله سلفنا الصالح اللذين كانوا يعنون بها ويعاقبون صغارهم على اللحن بها ويكافئونهم على الفصاحة والبيان، ولعلنا نفق مع نماذج من سلفنا الصالح بإيجاز دون إطناب؛ فمن ذلك: ما روي أن كاتباً كتب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- خطابا لعمر فبدأه بقوله: "من (أبو) موسى"؛ فكتبَ إليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أن اضرِبه سَوطًا، واستبدله بغيره". وكان الحسنُ البصريُّ -رحمه الله- يقول: "ربما دعوتُ فلَحَنتُ؛ فأخافُ أن لا يُستجابَ لي". وسمع الأعمش؛ رجلا يلحن في كلامه؛ فقال: "من الذي يتكلَّم وقلبي منه يتألَّم".
وكان أيوبُ السِّختيانيُّ -رحمه الله- إذا لحَنَ استغفرَ اللهَ. وسمِعَ الخليفةُ المأمونُ بعضَ ولده يلحَنُ؛ فقال: "ما على أحدِكم أن يتعلَّم العربيةَ، يُصلِحُ بها لسانَه، ويفُوقُ أقرانَه، ويُقيمُ أوَدَه، ويُزيِّنُ مشهَدَه، ويُقِلُّ حُجَجَ خصمِه بمُسكِتات حِكَمه". عباد الله: يجب على أهل الإسلام تعلم هذه اللغة العظيمة، وأن يعلموها أبنائهم، كما كان سلفهم؛ فبها يعرف المسلم عقيدته ودينه والحق والباطل؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "اللغةُ العربيةُ من الدين، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ؛ فإن فهمَ الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ"، ويقول -رحمه الله-: "ومعلومٌ أن تعلُّمَ العربية وتعليمَها فرضٌ على الكفاية".
وقد عبَّر الشاطبيُّ -رحمه الله- عن هذا المعنى بقوله: "إن الشريعةَ عربيةٌّ، وإذا كانت عربيَّةً؛ فلا يفهمُها حقَّ الفهمِ، إلا من فهِمَ اللغةَ العربيَّةَ حقَّ الفهمِ؛ فإذا فرضنا مُبتدِئًا في فهم العربية؛ فهو مُبتدِئٌ في فهم الشريعة، أو متوسِّطًا؛ فهو متوسِّطٌ في فهم الشريعة؛ فإن انتهى إلى درجة الغايةِ في العربية كان كذلك في الشريعة". وفي ذات الوقت الذي نحث فيه على تعلم اللغة العربية؛ علينا أن ندافع عنها مما تتعرض له من مكر أعدائها وحربهم عليها؛ سواء بشكل مباشر مثل: التصريح بعداوتها والتخطيط لمحوها من عقول أبنائها، وقد قال قائلهم: "إننا لن ننتصِرَ على المُسلمين ما دامُوا يقرؤون القرآنَ، ويتكلَّمون العربيةَ؛ فيجبُ أن نُزيلَ القرآنَ من وجوهِهم، ونقتلِعَ العربيةَ من ألسِنَتهم"، وهنا يتبين عظيم مكرهم بلغتنا ومخططهم لطمسها وأعلنوا عليها حربا ضروسا وأنفقوا لتحقيق أمانيهم الغالي والنفيس، ولكن الله خيب آمالهم وأفشل مخططاتهم . أو بترك العناية بها وتغييب دورها في المناهج التعليمة؛ فينشأ جيل لا صلة له باللغة العربية؛ سوى مجرد الانتساب إليها، وحينها لا يعرف عقيدته الصحيحة ولا يفرق بين الحق والباطل؛ فتخسر الأمة أصلا من أصولها ولبنة من لبناتها التي ترتكز عليها حضاراتها وتستقي منها ثقافاتها. ومع ضعف العناية باللغة العربية من أبنائها وكل هذه التحديات التي تواجهها؛ فإنها ستبقى شامخة شموخ الجبال محفوظة بحفظ الله تعالى لكتابه الكريم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].
وقد أحسن القائل حين قال:
وسِعتُ كتـابَ الله لفظًا وغايةً **** وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيفَ أضيقُ اليوم عن وصفِ آلةٍ **** وتنسـيقِ أسـماءٍ لمُخترعاتِ
خطيبنا المبارك: لمعرفة المزيد حول هذا الموضوع ومعرفة أهميته والمخاطر المحدقة به، وضعنا بين يديك هذه اللبنة وعدداً من الخطب المختارة لبعض من المشايخ الفضلاء والخطباء النجباء، للاستفادة منها ومن ثم نقلها إلى الغيورين على دينهم وتراثهم وسر عزهم ومهد حضاراتهم؛ علهم أن يفيقوا من غفلتهم ويعنوا بها ويعلمونها أجيالهم ..
التعليقات