اقتباس
ودائمًا ما تجد أجرأ الناس على تحمل الأمانة، هم أضعف الناس عن أدائها؛ فما جرَّأهم على طلب تحملها إلا جهلهم بخطرها، أو عدم اكتراثهم بها، ولو أدركوا خطورتها لهابوا أن يقربوها، ولذلك رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- طلب كل من جاءه لتحمل أمانة الإمارة...
فيا أيتها الأمانة: لقد نسينا ملامح وجهك ولون بشرتك وطول قامتك من بُعْد ما بيننا وبينك، لقد نسينا شكلك لطول القطيعة والجفاء الذي حلَّ بيننا وبينك! ولئن ظهر رجل أمين حقًا، فليكونن شاذًا بين عصبة الخائنين، منبوذًا طريدًا متهمًا بينهم! يروي أمين السر النبوي؛ حذيفة بن اليمان فيقول: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا: "أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة"، وحدثنا عن رفعها قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلًا أمينًا، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان"، ولقد أتى علي زمان ولا أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلمًا رده علي الإسلام وإن كان نصرانيًا رده علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانًا وفلانًا (مسلم)، فماذا ستقول -يا حذيفة- لو رأيت زماننا! لذا فإني أخشى عليك -أيتها الأمانة- لئن جازفتِ فأردت النزول في أراضينا أن نراك مصلوبة على أبواب بلادنا بتهمة الخيانة! أو مقطوعة الأطراف بعد أن أقاموا عليك حد الحرابة! أو مجلودة الظهر؛ محدودة للقذف لأنك قد رفعت السِتر عن الخائنين ووصمتهم بما فيهم!
ومع كل ما نرى من ضياع الأمانة ومن التفريط فيها، ومن تفشي الخيانة وتبريرها وتزينها، فإن هذا كله لن يمنعنا أن نقرر الأصل فنقول: إن دين الإسلام كله أمانة؛ جاء بالأمانة وقام على الأمانة وأمر أتباعه بالأمانة، بل لقد نفى نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عن كل من خان الأمانة، فعن أنس بن مالك قال: ما خطبنا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"(ابن حبان). وفي الإسلام لا يوجد مبرر أبدًا للخيانة، بل لا بد من أداء الأمانات لأصحابها، وعدم مقابلة الخيانة بمثلها، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"(أبو داود)، فلقد نُهينا عن الخيانة كلها دون استثناء صورة ولا شكل ولا حالة منها، قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: ٢٧].
بل لسوف يكلَّف خائن الأمانة يوم القيامة أن يؤديها إلى صاحبها فيبحث عنها داخل نار جهنم، فعن زاذان أن عبد الله بن مسعود قال: "القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة، وإن قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، ويمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين. ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عددها، وأعظم ذلك الودائع. فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا، قال، كذا قال، صدق أما سمعت يقول الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النساء: ٥٨]"(البيهقي في شعب الإيمان)، فديننا دين يلاحق حامل الأمانة بأمانته في الدنيا وفي الآخرة. بل وعدَّ الإسلام تضييع الأمانة من علامات الساعة، فبينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذ قضى حديثه قال: "أين -أراه- السائل عن الساعة؟"، قال: ها أنا يا رسول الله، قال: "فإذا ضعيت الأمانة فانتظر الساعة"، قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"(البخاري).
وإن لأداء الأمانات والقيام بها فضائل وبركات، منها ما يلي: أولًا: تفريج الكروب: يقدم لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نموذجًا لذلك فيقول: "بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه، فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز فذهب وتركه، وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرًا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز؟! فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساحت عنهم الصخرة"(متفق عليه). ثانيًا: حفظ الأمانة خير من جميع متاع الدنيا: فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة"(أحمد). ثالثًا: مراعاة الأمانة مما يؤهل للفردوس الأعلى من الجنة: ففي صفات المؤمنين قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[المؤمنون: ٨ -١١].
والأمانات ألف نوع ونوع، وألف شكل وشكل، ولها ألف صورة وصورة، فمن أنواعها وأشكالها وصورها: السر، فإن السر أمانة: يروي جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة"(الترمذي). وهذا خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتربية يديه؛ أنس بن مالك -رضي الله عنه- يحكي فيقول: أتى علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا فبعثنى إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدًا، قال أنس: والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك يا ثابت. (مسلم).
ولكن لذلك استثناءات: فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام، ومجلس يستحل فيه مال من غير حق"(أحمد، وضعفه الألباني)، وهذا الحديث وإن كان سنده ضعيفًا، فإن معناه صحيح؛ فالسكوت عن هذه الجرائم والتستر عليها وعدم التحذير منها.. إعانة عليها. والفتوى أمانة: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه"(أبو داود). والنصيحة أمانة: فقد زاد سليمان المهري فى حديث أبي هريرة السابق: "ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه"(أبو داود).
وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يطبق هذا حين استشاره أبو الهيثم فيقدم له النصيحة الصادقة، ثم تقوم زوجة أبو الهيثم بنفس الدور مع زوجها: فعن أبى هريرة -أيضًا- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبى الهيثم: "هل لك خادم؟"، قال: لا، قال: "فإذا أتانا سبي فأتنا"، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اختر منهما"، قال: يا رسول الله اختر لي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به خيرًا"، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لم يبعث نبيًا ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالًا، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي"(الأدب المفرد للبخاري).
والأسرار الزوجية أمانة: فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضى إلى امرأته وتفضى إليه ثم ينشر سرها"(مسلم)... ثم الدين كله بعد ذلك أمانات.
ثم هي كلمة أخيرة لا بد منها: الأمانة تحمل وأداء، فلا ينبغي لمن خاف على نفسه الضعف عن أدائها أن يتحملها، فليس للضعفاء حمل الأمانة؛ فإنها حمل ثقيل، ولقد أدركت الجمادات ذلك: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)[الأحزاب: ٧٢].
ولقد أخلص النبي -صلى الله عليه وسلم- النصيحة لأبي ذر حين قال له: "يا أبا ذر إنى أراك ضعيفًا، وإنى أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم"(مسلم)، ولما طلب أبو ذر الإمارة لنفسه، فقال: يا رسول الله ألا تستعملنى؟! قال: فضرب بيده على منكبيه ثم قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها"(مسلم).
ولقد حاول النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يؤكد هذا المعنى ويجليه ويوضحه بكل طريق، فقد حرَّم -صلى الله عليه وسلم- على الضعيف تحمل الأمانة، فعن أبي الهيثم عن أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستة أيام ثم اعقل يا أبا ذر ما أقول لك بعد"، فلما كان اليوم السابع قال: "أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحدًا شيئًا وإن سقط سوطك، ولا تقبض أمانة، ولا تقض بين اثنين"(أحمد). ودائمًا ما تجد أجرأ الناس على تحمل الأمانة، هم أضعف الناس عن أدائها؛ فما جرَّأهم على طلب تحملها إلا جهلهم بخطرها، أو عدم اكتراثهم بها، ولو أدركوا خطورتها لهابوا أن يقربوها، ولذلك رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- طلب كل من جاءه لتحمل أمانة الإمارة، فعن أبى موسى قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله -عز وجل-، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه"(مسلم).
ومهما حاول المرء أن يحيط بجوانب الأمانة في الإسلام، فلن يستطيع أن يحيط به في هذه العجالة، لذا فإنني أتنحى وأترك المجال للأقدر عليه من الكُتَّاب المهرة والمؤلفين الخيرة والخطباء المفوهين لإتمام هذا الأمر الذي قد بينت لكم بداياته، فإليكم هذا الملف العلمي الذي يقع في عدة محاور، يتناول كل محور منها جانبًا من جوانب الأمانة، فإليكم المحاور:
التعليقات
Egy020 Egy020
11-10-2018جزاك الله كل خير