عناصر الخطبة
1/ أهمية الأمانة ووجوبها 2/ الأمانة من أبرز أخلاق الرسل عليهم الصلاة والسلام 3/ مفهوم الأمانة 4/ مجالات الأمانة 5/ الأمانة وبناء الأمم 6/ ذهاب الأمانة من علامات الساعةعنوان فرعي أول
الرسل والأمانةعنوان فرعي ثاني
الأمانة وبناء الأممعنوان فرعي ثالث
من علامات الساعة ذهاب الأمانةاقتباس
إن الأمانة دِعامة بناء الأمم، ومستقرّ أساس الدول، وباسط ظلال الأمن والعدل، ومُشيّد أبنية العز والمجد، متى ما فُقدت من أمةٍ من الأمم اجتاحتها الآفاتُ المهلكة، والرزايا القاتلة، وأصابها الفقر المعوز، والذل المعجز، ثم لا تلبث أن تكون ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ) [المعارج:32-35].
أيها المسلمون: إنه لا قيمة للحياة مهما تيسرت فيها سبل الرخاء، وتنوعت فيها وسائل المتع والملذات، دون أن يشعر الإنسان فيها بالأمان من البوائق، والسلامة من الشرور، وينعم بظل الأمن الوارف، ولا يتحقق ذلك إلاّ بالإيمان الصادق بالله، والقيام بالأمانات الموكولة إلى الناس.
فالأمانة أمّ الفضائل، ومنبع الطمأنينة، وهي من أبرز أمارات الإيمان، ودلائل التقوى، بل إن الإيمان نفسه أمانةٌ في عنق العبد؛ فلا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.
الأمانة -عباد الله- أجلُّ صفات المسلم التي تظهر بها ديانته، ويتأكد بها إيمانه، وتتجلى من خلالها عبقريته، وقوة إرادته.
فهي الفضيلة العظمى، والمسؤولية الكبرى، التي تصان بها الحقوق، وتُحفظ بها الواجبات من الضياع.
إنها الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها، ويستعينون بالله -تعالى- على حفظها، حتى إن أحدهم ليودّع أخاه في سفره بقوله: "أستودع الله دينك وأمانتك، وخواتيم عملك" (رواه الترمذي).
إن الأمانة مسؤولية عظيمة، وعبءٌ ثقيل، إلاّ على من يسره الله عليه.
ولقد أمر الله عباده المؤمنين بالمحافظة على الأمانة، وأدائها إلى أهلها، وأن يحكموا بين الناس بالعدل.
وهذان أمران عظيمان لا تقوم الأمانة إلا بهما، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء:58].
قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: ما خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلاّ قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (رواه الإمام أحمد).
ومن منثور الحِكم: "أربعٌ يسود بهنّ العبد: الأدب، والصدق، وأداء الأمانة، والمروءة".
عباد الله: لقد فرض الإسلام على المسلمين الأخذ بخلق الأمانة، وحرّم عليهم أن يسلكوا مسالك الخيانة، فمن كان أميناً كان مطيعاً لربه في إسلامه، ومن كان خائناً كان عاصياً لربه في إسلامه، وربما وصل لحالةٍ يكون فيها مجروح الإسلام والإيمان، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن!" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه" (متفق عليه).
والبوائق، هي الشرور والخيانات.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم" (رواه الترمذي والنسائي).
بل لقد جعل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الخيانة علامةً بارزةً من علامات النفاق، فقال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم" (رواه مسلم).
قال سعد -رضي الله عنه-: "كل الخصال يُطبع المؤمن عليها إلاّ الخيانة والكذب".
عباد الله: لقد كانت الأمانة من أبرز أخلاق الرسل -عليهم الصلاة والسلام-؛ لأنها شرط أساسٌ لاصطفائهم بالرسالة، فلولا أن يكونوا أمناء لما استأمنهم الله على رسالاته لخلقه؛ لأن الأمين هو وحده الذي يوثق به في نقل الأخبار، وتبليغ الرسالات، وفي قصص الأنبياء في القرآن كان كل واحد منهم يقول لقومه: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء:107-108].
وكان لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- القِدح المعلّى في ذلك، فقد كان معروفاً في قومه بالصادق الأمين، يستودعونه على ودائعهم مع كفرهم بما جاء به، وعدوانهم له ولدينه ولأتباعه إلا أنهم أيقنوا في قرارة نفوسهم أنه الصادق الأمين، ومع ذلك لم يحمله بغضهم إياه ومحاربتهم له على التفريط في ودائعهم، بل ردّها إليهم، وأمّر على الباقي عليّاً إبان مهاجرته إلى المدينة ليردّه إلى أصحابه، وتلك -لعمر الله- صفات العظماء، وخصال الكرماء التي يسودون بها العالم.
أيها المسلمون: ولئن كانت الأمانة عظيمة القدر، حميدة الذكر فإنها واسعةُ الدلالة، ترمز إلى معانٍ شتى، مناطها جميعاً شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسؤول عنه أما الله على النحو الذي فصّله قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته" (رواه البخاري ومسلم).
إن الأمانة في الإسلام قيام بالمسؤولية في جميع الوجوه، وكل المستويات، في علاقة العبد بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالناس أجمعين، وتمتد مع شمولية الإسلام إلى كل مرفق من مرافق الحياة، في الراعي والرعية، والإدارة والسياسة، والتعليم والتربية، والصناعة والتجارة.
ومن أهم أوجه الأمانة: حفظ العبد جوارحه وحواسّه عن الحرام، ومعرفته نعم الله عليه في أهله ونفسه وماله، والقيام بشكرها.
ومن الأمانة: حفظ حقوق الجلساء والأصدقاء، فإن المجالس بالأمانة؛ فكم من حبال تقطعت، ومصالح تعطلت، بسبب إفشاء الأسرار والغيبة والنميمة، والتجسس على المسلمين.
ومن أوجب الأمانات: حفظ الودائع التي يودعها الناس عند بعضهم ليحفظوها ويردوها عند طلبها، وسداد الديون لأهلها، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّاها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتافه الله" (متفق عليه).
ومن الأمانة: القيام بالحقوق والأعمال الموكولة إلى الموظفين والعاملين، وإنها لأمانةٌ يُمجدها الإسلامُ أن يُخلص الرجل في عمله، وأن يُعنى بإجادته، وأن يسهر على حقوق الناس التي وضعت بين يديه، فإنّ استهانة الفرد بما كلف به، وإن كان تافهاً تستتبع شيوع التفريط في حياة الجماعة كلها، ثم استشراء الفساد في كيان الأمة.
ومن أوجه الأمانة: القيام بما حمّله الله -تعالى- حُرّاس الملة، وحملة الشريعة، وورثة الكتاب أن يبينونه للناس ولا يكتمونه، وأن يعلّموا الناس ويوجهوهم، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر؛ استجابةً لأمر الله القائل: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران:187].
ومن أعظم مجالات الأمانة: أمانة الكلمة؛ إذ بها تُهدم أمم، وتبنى دول، وتنهار شعوب، وتُحمى ممالك؛ فكم من كلمة خائنةٍ لا يُلقِي لها قائلها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، تكون سبباً في هدم كيان مستقيم، وتخريب بناءٍ منتظم.
وكم من كلمةٍ موبوءةٍ فرّقت أمماً، وحطمت أسراً، وصدّعت مجتمعات عامرة، فرّقت بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه، والزوج وزوجه، والجار وجاره، حتى صارت حبال المودة منقطعة، وصلات القرابة منبوذة.
وكم من كلمةٍ كاذبةٍ تجردت من الأمانة، أُكلت بها حقوق، واقتُطِع بها ممالك، وانتُهب بها أموال، تحريفاً وتزويراً وتدليساً وغشاً.
إنه إذا اختلت أمانة الرجال -عباد الله- سقط البناء، وسُلب الأمن، وضاعت الحقوق، وتَفتّحت أبواب الفقر والفاقة، وعميت على الأمة سبل النجاح والفلاح، فانقرضوا بفسادٍ، أو تَسلّط عليهم أهل جبروت أقوياء، فساموهم سوء العذاب.
فاتقوا الله -معاشر المسلمين- وقوموا بما حُمّلتم به من أمانات، وسددوا وقاربوا، وافعلوا الخير لعلكم ترحمون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].
بارك الله لي …
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الأمانة عبءٌ ثقيل، ومسؤولية كبرى، عرضها الله (عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
إن الأمانة دِعامة بناء الأمم، ومستقرّ أساس الدول، وباسط ظلال الأمن والعدل، ومُشيّد أبنية العز والمجد، متى ما فُقدت من أمةٍ من الأمم اجتاحتها الآفاتُ المهلكة، والرزايا القاتلة، وأصابها الفقر المعوز، والذل المعجز، ثم لا تلبث أن تكون هشيماً تذروه الرياح.
روى أهل السير أنه لما فتح المسلمون مدائن العراق في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دخل القائد المسلم سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قصر كسرى، فأخذ جندُ المسلمين الغنائم العظيمة من كنوز الأكاسرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، ثم أرسل بها سعدٌ إلى عمر خليفة المسلمين، وحمل المسلمون هذه الكنوز بكل أمانة وصدق، فلما دخلوا على عمر ورأى هذه الكنوز، قال: "إن قوماً حملوا هذا لأمناء"، فقال له عليّ -رضي الله عنه-: "لقد عَففتَ يا أمير المؤمنين، فعفّت رعيتك، ولو رتعْتَ لرتعَت".
ألا فليعلم كل صاحب منصب أو ولاية أو إدارة أنه في مقام القدوة لمن تحت يده من أبناء وزوجات وموظفين؛ فليتق الله فيما حُمّل من الأمانة قياماً بالمسؤولية ورعايةً للواجب.
وإن الناظر في أحوال كثير من الناس اليوم -إلا من عصم الله- لا يكاد يرى للأمانة أثراً في تعاملهم مع الآخرين؛ بيعاً وشراءً، وقرضاً ووديعةً، وفي القيام بما كلفوا به من الفرائض، صلاةً وزكاةً وصياماً وتقوى.
وفي حفظ من ولاّهم الله أمره من أهلٍ وزوجةٍ وقرابةٍ وأرحامٍ وأجراء.
وما أنصفوا -والله- أناسٌ حمّلهم الله أمانة المسلمين، فغشوا ودلسوا، وخدعوا وكذبوا وفرطوا، أضاعوا الحقوق، وأكلوا الأموال، ودنسوا الأعراض، وهذا مصداق ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ: "الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ"، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا، قَالَ: "يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" (متفق عليه).
وهذا -عباد الله- منذرٌ بخطر عظيم، وشر جسيم، إذ هو علامةٌ من علامات القيامة، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: بينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدّث إذ جاء أعرابيّ، فقال: متى الساعة؟ قال: "إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة" قال: وكيف إضاعتها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وسّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة" (رواه البخاري).
اللهم …
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم