الأسرة ودورها في إصلاح المجتمعات – خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

اقتباس

والأسرة هي اللبنة التي يرفع بها بناء المجتمع، فإذا أُحسِن تقويمها وتأسيسها كانت لبنة قوية في صرح المجتمع؛ تحتضن أفرادها فتخرجهم عُمَّارًا للأرض بل للكون، وكلما كثرت الأسر الصالحة كلما عاد ذلك على بنية المجتمع قوة وفتوة ونضارة وحضارة ورخاء وازدهارًا، والعكس بالعكس. فإذا تعلمنا كيف نبني أسرة قوية فقد...

مع أن سند الحديث ضعيف لكن معناه صحيح إلى حد بعيد؛ ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم وخضراء الدمن" ، فقيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء"، وقد يعضده هذا الحديث الحسن الذي روته أم المؤمنين عائشة قائلة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم"(رواه ابن ماجه). 

ومعنى الحديثين واحد تقريبًا، وهو يتلخص في كلمتين: "إذا طاب الوعاء طاب ما فيه، وإذا خبث الوعاء خبث ما فيه"، وكما أن الأم هي الوعاء الأول للولد، فإن الأسرة متمثلة في الوالدين والأهل هي الوعاء الأشمل والأدوم للنشء، فإذا طابت الأسرة طاب ما تخرجه من ذرية، وإذا خبثت فقلما تنبت جيلًا صالحًا.

 

نعم، إن الأسرة هي محضن النشء الغض سهل التكوين والتشكيل، لذا فإنها خطيرة؛ فهي إما أن تغذي أفرادها بالبر والتقى والخوف من الله وحب الخلق والإحسان إليهم... فيخرجوا عوامل بناء ومشاعل ضياء ومنابع إيمان وحب، وإما أن تغذي أفرادها أثرة وحقدًا وجحودًا وفرَقًا وبعدًا عن الله وبغضًا لعباده... فيعثوا أفرادها في الأرض فسادًا وإفسادًا، معاول هدم ومغاليق خير ومفاتيح زور وشر!

 

وما هذا المجتمع إلا كجدار؛ فكل منهما مكوَّن من لبنات متراصة بعضها فوق بعض، فإن كانت كل لبنة في الجدار صلبة سليمة مستقيمة متماسكة أنتجت جدارًا نموذجيًا قويًا خاليًا من الفطور والعيوب والعاهات، وإن كانت بعض لبنات الجدار معيبة هشة ضعيفة أثَّر ذلك على متانة الجدار ومظهره، وكلما كثرت تلك اللبنات المعيبة كلما أسرع ذلك بانهدام الجدار كله وتقوضه.

 

والأسرة هي اللبنة التي يرفع بها بناء المجتمع، فإذا أُحسِن تقويمها وتأسيسها كانت لبنة قوية في صرح المجتمع؛ تحتضن أفرادها فتخرجهم عُمَّارًا للأرض بل للكون، وكلما كثرت الأسر الصالحة كلما عاد ذلك على بنية المجتمع قوة وفتوة ونضارة وحضارة ورخاء وازدهارًا، والعكس بالعكس.

 

فإذا تعلمنا كيف نبني أسرة قوية فقد نجحنا في خلق مجتمع قوي حيوي حضاري، وهذا هو السؤال الأهم: كيف نبني أسرة صالحة؟ وفي إجابة هذا السؤال يكمن صلاح المجتمع كله، وتتلخص الإجابة عليه في النقاط التالية: أولًا: حسن اختيار الشريك: فها هو الإسلام يقول للشاب المقبل على الزواج: "أحسن الاختيار؛ فاختر زوجتك على أساس الدين والإيمان"؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك"(متفق عليه).

 

وها هو ديننا يقول لأولياء أمور الفتيات: "أحسنوا الانتقاء لفتياتكم؛ فلا تقبلوا إلا صاحب الدين والخلق"؛ فعن أبي هريرة -أيضًا- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"(رواه ابن ماجه).

 

ثانيًا: إتقان تربية الأولاد: وهذا أمر يحتاج إلى محاضرات ومجلدات، ولكن لعلنا نضع الخطوط العريضة له في رؤوس الأقلام الآتية: 

(أ) إخلاص النية في تربيتهم: فمن الناس من يربي أولاده: عادة أو مباهاة أو معاوضة... أما أنت فلا تربهم عادة؛ أي: لأن جميع البشر يربون أولادهم فأنت تربي كما يربون، وأننا اعتدنا أن كل من أنجب ولدًا يربيه -حتى الحيوانات- فنحن نسير على ما تعودنا! ولا تربهم مباهاة ومفاخرة؛ لسان حالك: "لا يكون أولاد فلان أفضل من أولادي! إن خرج من أولاده الطبيب والمهندس والمدرس، فسيكون أولادي كذلك، وإن تعلموا في مدارس دولية فلن يكون أولادي أقل منهم"! ولا تربهم معاوضة؛ أي: تتقن تربيتهم صغارًا كي يبروك ويعينوك كبارًا، تحسن إليهم الآن كي يردوا لك الجميل غدًا!

 

بل ربِّهم لله ولوجه الله وابتغاء مرضات الله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ)[الأنعام: 162-163]، وكذا تربيتي لأولادي لله رب العالمين: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[الإنسان: 9].

 

(ب) إعطاؤهم حقوقهم كاملة غير منقوصة: ومن تلك الحقوق -بعد اختيار أمهم الصالحة-: الاستعاذة من الشيطان عند الجماع كي لا يضرهم، والتأذين في أذنهم إذا وُلدوا، واختيار الاسم الحسن الذي لا يعيرون به، وإطعامهم من حلال وتجنيبهم الحرام، والنفقة عليهم بالمعروف وبالمستطاع... إلى آخر الحقوق المفصلة في كتب العلماء.

 

(ج) تحصين قلوبهم وعقولهم: فنحصن القلب بالإيمان وبالقرآن، يروي جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- فيقول: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة -أي: قاربنا البلوغ-، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا"(ابن ماجه). وأما تحصين عقله فبتعليمه التفكر والتدبر والتخير وإعمال العقل واستخدامه في ضوء الشرع في التمييز بين الخير والشر والنافع والضار والحق والباطل... فكل طيب مباح وكل خبيث حرام: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[الأعراف: 157]. وأن طريقًا واحدًا ليهبنا الله -عز وجل- ميزانًا ومقياسًا وحاسة و"فرقانًا" نميز ونفرِّق بها بين الحق والباطل؛ تلك هي التقوى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)[الأنفال: 29]؛ "يعني يجعل لكم نورًا وتوفيقًا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل"(تفسير الخازن).

 

(د) تعليمهم العقيدة والعبادة والأخلاق: تمامًا كما فعل لقمان مع ابنه: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، وأتْبَع هذه العقيدة الأساسية بتعليمه أخرى؛ تلك هي المراقبة: (يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 16]، وبعد أن علَّمه العقيدة، وصاه بالعبادة: (يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ)[لقمان: 17]، ثم لما تم ذلك نبَّأه أن من ثمار العقيدة والعبادة: الأخلاق الحسنة مع الناس: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لقمان:  18 - 19].

 

(و) العدل بينهم: وكفى في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر"(مستخرج أبي عوانة، وأصله في الصحيحين)، فإننا إن لم نعدل بينهم فقد زرعنا في قلوبهم بذور الشقاق والعداوة، فتتمزق الأسرة فيتقطع المجتمع!

 

ثالثًا: التوافق بين الزوجين والمعاشرة بالمعروف: فإن الخلاف شر وضياع للأولاد وللزوجين وللأسرة كلها، ومن دعائم التوافق: قبول الطرف الآخر بما فيه من عيوب، والتغاضي عنها لصالح ما فيه من مميزات، هكذا نقل إلينا أبو هريرة، على لسان الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر"(مسلم)، بل هذا ما أمرنا به الجليل -سبحانه وتعالى- حيث قال في كتابه: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].

 

رابعًا: -وحقها أن تكون أولًا- التزام حدود الله -تعالى-: وهذا هو أساس استقرار الأسر والمجتمعات، فوسط الآيات التي تنظم بعض العلاقات الأسرية يأمر -تعالى- فيقول: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة: 229]، وفي سورة الطلاق -التي تتكلم عن جزء من العلاقات داخل الأسر- يقول -عز من قائل-: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطلاق: 2].

 

ولو تحاكمت الأسر والأفراد إلى شرع الله -عز وجل- والتزمت حدوده؛ فأحلت الحلال وحرمت الحرام وأخذت على أيدي المفسدين... لقام مجتمع إسلامي فاضل قوي متين متماسك لا تؤثر فيه رياح ولا أعاصير، فإن المجتمع كسفينة تمخر عباب البحار، فسلامتها في البعد عن المعاصي، وخرقها وغرقها في إطلاق يد العصاة، وهذا ما قاله رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا"(رواه البخاري).

 

وأخيرًا، ننادي رب الأسرة وربة الأسرة فنقول: لا تحتقروا ما تقدمونه من رعاية وعناية لأولادكم ولأسركم داخل بيوتكم، فمن عندكم يبدأ النهوض أو السقوط، ومن عندكم يكون الفوز والفلاح أو الخسران والطلاح، أنتم -إذا صلحتم- صانعو اللبنات القوية للمجتمعات، وأنتم -إذا فسدتم- مصدرو بذور الخيبة والهلاك...

 

"فاللهم أصلح حال أسرنا لينصلح بصلاحها حال مجتمعنا".

 

هذه هي دعوة جميع خطبائنا الواعين وإن اختلفت ألفاظهم وألوانهم وبلادهم؛ جميعهم يحرص على صلاح الأسرة لأنها سر قوة المجتمع، ولندلل على ذلك ونعززه فقد قدمنا إليك بعضًا من خطبهم.

 

الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الأولى:
العنوان
مكانة الأسرة في الإسلام ومظاهر عنايته بها 2020/06/08 8001 703 15
مكانة الأسرة في الإسلام ومظاهر عنايته بها

إِنَّ الْأُسْرَةَ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْمُجْتَمَعُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْمُجْتَمَعُ؛ وَلِهَذَا اعْتَنَى النِّظَامُ الِاجْتِمَاعِيُّ الْإِسْلَامِيُّ بِالْأُسْرَةِ عِنَايَةً كَبِيرَةً.. وَقَدْ يَكُونُ الرَّبْطُ بَيْنَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ وَالْأُسَرِ بِسَبَبِ رَابِطَةِ الصِّهْرِ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ اسْتِقَامَةِ الْأُسَرِ عَلَى...

المرفقات

مكانة الأسرة في الإسلام ومظاهر عنايته بها

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life