آفات اللسان: الغيبة والنميمة - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-01-18 - 1444/06/25
التصنيفات:

اقتباس

وقطرة واحدة من تلك الغيبة المقيتة كفيلة بأن تعكر ماء البحر كله، فلما قالت عائشة: حسبك من صفية كذا وكذا.. -تعني قصيرة- كان الجواب النبوي: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"... بل هي جريمة لو انتقلت إلى الهواء لأنتنته؛ فقد ارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين"...

هو أكثر أعضاء الجسم عملًا ودأبًا، لكنه أقلها نصبًا وتعبًا.. وهو من أصغر الأعضاء حجمًا، لكنه أعظمها خطرًا وشرًا.. هو من تخاطبه الجوارح كلها عند كل صباح وتسأله أن يتقي الله -تعالى- فيها؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكَفِّرُ اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وتُكَفِّرُ اللسان: "أي تذل وتخضع له، والتكفير: هو أن ينحني الإنسان ويطأطئ رأسه قريبًا من الركوع، كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه"(النهاية، لابن الأثير).

 

لكن أإلى هذا الحد يبلغ خطر اللسان؟! نجيب: وأخطر من هذا قد بلغ؛ فلما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: "الفم والفرج"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، ولما قال له معاذ بن جبل: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فاجأه -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).

 

ومع ذلكن فليس اللسان شر كله؛ بل به يُدعى إلى الله -تعالى-، وبه يُقرأ القرآن الكريم، وبه يؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، وبه تُقام شعائر الدين، وبه يقال الصدق ويُنصر الحق ويُخذل الباطل... فإن لم يكن شيء من ذلك فالصمت أولى بصاحبه، ولقد لخص أبو الدرداء -رضي الله عنه- الأمر قائلًا: "لا خير في الحياة إلا لرجلين: صامت وارع، أو متكلم ناطق غانم"(الزهد، لابن أبي عاصم).

 

***

 

ومن آفات اللسان الكثيرة والعديدة: آفة الغيبة والنميمة... ولو كنتَ عالمًا من علماء اللغة العربية، أو تاليًا متدبرًا للقرآن الكريم، ثم سألتك: ما هو أبشع تشبيه لجريمة في كتاب الله -تعالى-؟ لما وجدتَ ولما وقفتَ -فيما أعلم- على مثل تشبيه المغتاب في القرآن الكريم: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات: 12]، "وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ودمه؛ لأن الإنسان يتألم قلبه إذا ذكر بسوء كما يتألم جسده إذا قطع لحمه، والعرض أشرف من اللحم"(تفسير الخازن).

 

فما أقبحها من جريمة لو تخيلتها وتصورتها: فهذا مسلم قد مات، فدخل عليه مسلم آخر وأغلق خلفه الباب، وبدلًا من أن تذرف عيناه دمعًا لمصابه بأخيه، أو تأخذه قشعريرة في بدنه من هيبة الموت ورهبته، أو يلقي النظرة الأخيرة على وجه أخيه مودعًا إياه، إذا به يفتح فمه -لا ليدعو للميت- بل ليبرز أنيابه فيغرسها في لحم تلك الجثة المسجاة، فيقتطع منها قطعة ينتزعها وأنيابه تقطر دمًا، ثم يعاود الكرة فينتهش لحم الجثة قطعة بعد قطعة حتى تبدو العظام ليس عليها مزعة لحم! في مشهد قبيح بشع مقزز، يليق بالوحوش لا بالبشر.. أو أن حكاية "آكلي لحوم البشر" لم تكن خرافة ولا أسطورة، فها هي قد تحققت!

 

فذاك هو المغتاب، وذاك هو فعله؛ كان أخوه مستورًا فعرَّى بلسانه سوأته، وكان أخوه ممدوحًا بين الناس فحملهم بكلماته على ذمه وعيبه، وكانت الناس تلقى أخاه في ود وإقبال وبِشْر فالآن سوف تلقاه متجهمة مدبرة، وكانوا يسارعون في خدمته ومعونته فالآن سوف يتهربون منه ويتفرقون عنه، وكانوا يكفون لسانهم عنه والآن سوف يطلقونها فيه عائبين وناعين ومؤنبين وموبخين... والسبب في ذلك كله هو: غيبة المغتاب.

 

***

 

ومع ما في جريمة الغيبة من قبح، فإن هناك آفة أخرى، وجريمة ثانية هي أشنع منها وأقبح، إنها جريمة "النميمة"، ولعل تسأل: وما الفرق بينهما؟ أجيب: لقد عرَّف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغيبة قائلًا: "ذكرك أخاك بما يكره"، فسئل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته"(رواه مسلم)، و"البهتان" جريمة ثالثة لن نتعرض لها الآن.

 

وقطرة واحدة من تلك الغيبة المقيتة كفيلة بأن تعكر وتكدر ماء البحر كله، فلما قالت عائشة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفية كذا وكذا.. -تعني قصيرة- قال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، "أي: خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه؛ لشدة نتنها وقبحها"(فيض القدير للمناوي).

 

بل هي جريمة لو انتقلت إلى الهواء لأنتنته؛ فعن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين"(رواه أحمد، وحسنه الألباني).

 

وجزاء المغتابين من جنس عملهم، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).

 

أما النميمة فهي: نقل الكلام بين الناس بنية الإيقاع والإفساد بينهم، فعن عبد الله بن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة: القالة بين الناس"(رواه مسلم)، والعضه: الكذب الفاحش الغليظ التحريم.

 

وهي من أسباب عذاب القبر -والعياذ بالله-، فعن ابن عباس قال: مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين، فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"(متفق عليه)، وهو محروم من دخول الجنة، فعن حذيفة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يدخل الجنة نمام"(متفق عليه).

 

***

 

فهما جريمتان مختلفتان، يجمعهما اللسان، أما النميمة فليس لها أعذار ولا أحوال تبيحها أبدًا، اللهم إلا إن كانت في الحرب بين الكافرين كما فعل نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب.

 

وأما الغيبة فقد ذكر العلماء بعض الأحوال التي تباح فيها، ومنها: الاستفتاء: كما قالت هند زوجة أبي سفيان للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أبا سفيان رجل شحيح"(متفق عليه)، ولم ينهها -صلى الله عليه وسلم-، ومنها: التظلم: فللمظلوم أن يشتكي الظالم ويتكلم بما ظلمه فيه، قال -تعالى-: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)[النساء: 148]، وفي الحديث: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته"(رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، ومنها: التحذير من الانخداع بفاسق أو منافق، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا" قال الليث: "كانا رجلين من المنافقين"(رواه البخاري)، وكقوله -صلى الله عليه وسلم- عن آخر: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة"(متفق عليه)، ومنها النصيحة للضرورة كقوله -صلى الله عليه وسلم- للمستشيرة في الزواج: "أما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له"(رواه مسلم)...

 

وقد جمعنا فيما يلي من الخطب المنتقاة ما يزيد الأمر توضيحًا وتفصيلًا وتأصيلًا وبيانًا.

 

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
الخطبة العاشرة:
الخطبة الحادية عشر:
الخطبة الثانية عشر:
الخطبة الثالثة عشر:
الخطبة الرابعة عشر:
العنوان
الغيبة والنميمة وآثارهما السيئة على الفرد والمجتمع 2011/01/19 34473 1544 223
الغيبة والنميمة وآثارهما السيئة على الفرد والمجتمع

فالغيبةُ والنميمة عار ونار، صاحبُها ممقوت، وعلى غير الجميل يموت، تنفر منه القلوب، وتكثر فيه العيوب، قد نهى الله عنها في قوله تعالى: (ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)، وهذا النهي في غاية التنفير من الغيبة ..

المرفقات

والنميمة وآثارهما السيئة على الفرد والمجتمع

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life