عناصر الخطبة
1/ تفشي داء النميمة والتحذير من ذلك 2/ حقارة ودناءة النمام ومقاصدهم 3/ التعامل الشرعي مع النمام 4/ مفاسد النميمة وعواقبها الوخيمةاقتباس
عندما يقل الكلام، ويكثر الفراغ، وتضعف النفوس، وتنحبس على أسقامها أو أخبارهم، لا تجد لها شغلاً ولا ارتياحاً إلا في نقل الكلام، وتوزيع الرسائل بين الإخوة والأحباب والجيران، فيقول...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 - 71].
أيها الناس: عندما تحلو الحياة، ويصفو ودادها، ويتواصل الأقارب، ويجتمع الأصدقاء والأحبة، تسطع جمرة حانقة، قد ارتدت جلباب الحقد والحسد، وتجللت بألوان المكر والكيد، ساءها الوصال، وحرقها التواد والمعروف، فانبرت لتقطع حبل المودة وتعكر الصفو، وتذكي الحرب والخصومة.
هل عرفتم من تلك الجمرة الخانقة؟ إنه "النمام" الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا يدخل الجنة نمام" كما في الصحيحين من حديث حذيفة -رضي الله عنه-.
لقد شاع هذا المنكر في حياة المسلمين المعاصرة، أعني النميمة، ينقل جماعة كلام الناس في بعضهم بعضا بقصد إثارة الفتنة، وإشعال الخصومة وحصول الجفاء والعداوة: (وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم: 10 - 11].
عندما يقل الكلام، ويكثر الفراغ، وتضعف النفوس، وتنحبس على أسقامها أو أخبارهم، لا تجد لها شغلاً ولا ارتياحاً إلا في نقل الكلام، وتوزيع الرسائل بين الإخوة والأحباب والجيران، فيقول النمام: قال فيك كذا، وصنع كذا، ورأيته يفعل كذا وكذا، ويذهب للآخر، فيعطيه كلام الآخر على جهة صنع العداوة، وتعكير العلاقة الطيبة، ثبت في المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تجدون من شرار الناس يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه".
ومن وصايا لقمان الجميلة أنه قال لابنه: "يا بُني أوصيك بخلال إن تمسّكتَ بهن لم تزل سيداً: ابسط خلقَك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك، وصل أقاربك، وأمنهم من قبول قول ساع، أو سماع باغٍ، يريد فسادك، ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك , لم تعبهم ولم يعيبوك".
تنح عن النميمة واجتنبها *** فإن النمَّ يحبط كلَّ أجرِ
يثير أخو النميمة كلَّ شرٍ *** ويكشف للخلائق كل سترِ
ويقتل ذو النميمةِ كلَّ شرٍ *** وليس النمُّ من أفعالِ حُرِ
ليست النميمة -يا مسلمون- من أخلاق الأحرار الأبرار الذين تربوا على مائدة القرآن الكريم, وعلموا من الله ما يزجرهم عن مساوئ الأخلاق، وأفعال أهل الدناءات؛ فلقد عير الله بعض المشركين بقوله: (وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم: 10 - 11].
وقد يجمع النمام إلى قبيحته سوء الخلق والكذب، وتهويل الموقف، مع ما انطوت عليه النميمة من حقد على التآلف وحسد على الاجتماع، وكراهية للحب والتقارب، ولهذا كان عذاب النمام شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قتات" (والقتات: النمام).
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله" الحديث..
أيها الإخوة الكرام: قبيح -والله- بمن يصلي ويصوم، ويذكر الله، أن يتخلق بخلق النمامين الذين لهم إلا تكدير المزاج، وصناعة الفتن والقلاقل! قبيح -والله- لمن استطعم الأدب والخلق أن يسعى سعاية الدس والكيد، وليظهر أنه الناصح المشفق!
كم ساءنا -وايم الله- تناحر الأقارب، وتعادي الأصدقاء، بسبب وشاية نمام، ورواية جبان لئيم، لا يُدرى أصحيحة هي أم مختلفة مكذوبة؟!
لقد أفلح النمامون في اجترار كثيرين إلى نفوسهم الخبيثة، ومحاولاتهم الدنيئة، فظنوا في إخوانهم المسلمين الظنون الفاسدة، والأفعال المشينة، فوقعت الفرقة والبغضاء، وحل التباغض والخصام -والله المستعان-، روي عن علي -رضي الله عنه- أن رجلاً سعى إليه برجل فقال: "يا هذا، نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، فقال، أقلني يا أمير المؤمنين"، وقال الحسن البصري -رحمه الله- ونعم ما قال: "من نَمَّ إليك نم عليك".
لا تقبلنَّ نميمة بُلغِّتهَا *** وتحفظنَّ من الذي أنباكَها
إن الذي أهدى إليك نميمةً *** سيُنمُّ عنك بمثلِها قد حاكَها
أيها الإخوة: ومن مقاصد النميمة في هذا العصر: الحظوة لدى المدير أو المسؤول والتزلف إليهم، وقصد الانتقام من بعض الزملاء في الدائرة فالواجب على عقلاء الناس عدم الالتفات إلى ذلك، ووعظ النمام وزجره عن هذا الخلق اللئيم، وليتذكر أحدنا مقولة الحسن: "من نم إليك نم عليك".
وليس بهذا الفعل اللئيم يُبلى الرجال، وتكشف أسرارهم، ويعرف ولاؤهم ومحبتهم.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واحذروا مساوئ الأخلاق، واطلبوا محاسنها، واحذروا أن تجرح نفوسكم، وأعراضكم بهذه الأخلاق الدنيئة من النميمة وأشباهها، واهجروا النمام، وقبحوا أمره، وحذروه أشد الحذر من سوء فعله ومغبة أمره، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن محمداً -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أنبئكم ما العضْه؟ هي النميمة القالة بين الناس"، وإن محمداً -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ويكذب حتى يكتب كذاباً".
وليحذر المبتلى بهذا الخلق المشين العودة إليه، وليتب إلى الله، فالنميمة كبيرة من كبائر الذنوب، وهي باب العداوة والخصومات، وطريق لكثير من المفاسد، والمخالفات.
أيها الإخوة: أما كيف يتعامل مع النمام، والذي نقل فيك كلاماً عن آخر، قال الذهبي -رحمه الله-: "كل مَنْ حُملت إليه نميمة، وقيل له: قال فيك فلان كذا وكذا لزمه ستة أحوال:
الأول: ألا يصدقه؛ لأنه نمام فاسق، وهو مردود الخبر.
الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه، ويقبح فعله.
الثالث: أن يبغضه في الله -عز وجل-، فإنه بغيض عند الله، والبغض في الله واجب.
الرابع: ألا يظن في المنقول عنه السوء؛ لقوله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12].
الخامس: ألا يحمله ما حكى له على التجسس والبحث عن تحقق ذلك؛ مصداقاً لقوله تعالى: (وَلاَ تَجَسَّسُوا) [الحجرات: 12].
السادس: ألا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكي نميمته.
أيها الإخوة: إن معادن الرجال وشيمهم لتأبى الوقيعة في مثل هذا الخلق الذميم، وإنها تترفع بشرفها عن أن تكون نقالة للكلام بين الناس، وماذا تجني من ذلك؟!
إنها لا تجني إلا الوزر العظيم، وفساد القلب واللسان، وهوان الذات، وتلوث السمعة وفرار الناس عنها.
وليتذكر من يقرأ القرآن قوله تعالى: (هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم: 11]، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة نمام".
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم