اقتباس
يا نفس: ويحك، ينصحك الناصح ولا تنتصحين، ويعظك الواعظ فلا ترتدعين، ويعلوك الشيب فلا تنزجرين! كأنك في مأمن من موت وسكرات وبرزخ وبعث وحساب وجزاء وهول يوم عظيم!...
عجيب أن يفرح المرء ويسعد كلما انصرم عام من الأعوام! وكيف يفرح وهو جزء من عمره قد انقضى وولى ولن يعود أبدًا! كيف يسعد وبمضي هذا العام قد اقترب هو من الموت عامًا! أما كان الأولى به أن يحزن ويهتم ويعتبر ويذرف الدمع؟... نعم؛ فإنه كلما مرت دقيقة أو ساعة أو يوم، فقد اقترب من الموت بقدر ما مر، على حد قول الشاعر: إنا لـــنـفـرح بالأيام نــقطـعـها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل وهو نفس ما قاله أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل تكون قبرك، ابن آدم إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك، ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك"(الزهد الكبير للبيهقي)، وعن الحسن البصري أنه قال: "ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم ويقول: يا أيها الناس إني يوم جديد، وأنا على ما يُعمَل فيّ شهيد، وإني لو قد أفلت شمسي لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة"(حفظ العمر لابن الجوزي).
فها هي السنون لم تزل تمر حتى جعلت الرضيع شابًا والشاب شيخًا! ولم تزل تفر حتى حولت الأخضر يابسًا والروض قفرًا! ولم تفتأ تكر حتى أتت لكل شيء بنهايته وبفساده وبهلاكه؛ أتت للشَعر الأسود بالشيب الأبيض، وأتت للظهر المستقيم بالاعوجاج والتقوس، وأتت للأسنان المتراصة بالتساقط والتخلخل، وأتت للنظر الحاد بالعشى والعمى... جاءت السنون المتعاقبة لكل قوي بضعفه ولكل غني بفقره ولكل حي بحتفه ولكل موجود بفنائه... (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)[القصص: 88].
وكر الأيام وتواليها وتتابعها وتدانيها وهروبها وفرارها وعدم إمكان تلافيها... كل هذا يواجهنا ويصدمنا بحقيقة -لا ننكرها وإن كنا نتحاشاها-، وهي: أن الموت قادم لا محالة، قادم ليحصدنا كما حصد من كانوا قبلنا، فلتتفكر: أين آدم -عليه السلام- وأولاده؟ أين نوح وقومه؟ أين إدريس وإبراهيم ولوط وموسى وعيسى... أين داود وسليمان وزكريا... بل أين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟! فلو كان لأحد على ظهر الأرض خلود لكان هؤلاء الأنبياء الكرام أحق به وأولى. وأين الحضارات العريقة القوية العتيقة؟ أين الحضارة السومرية التي ملأت ما بين نهري دجلة والفرات، أين حضارة الآشوريين والبابليين؟ أين الحضارة اليونانية الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفرعونية... أين كل من مشى على هذه الأرض بقدمين، كلهم -مثلنا تمامًا- كانت لهم طموحات وأحلام وأمنيات وآمال، كلهم -مثلنا تمامًا- سعى وضرب في الأرض مبتغيًا تحقيق حلمه وقضاء وطره، كلهم -مثلنا تمامًا- كانت لهم نزوات ورغبات وشهوات، كلهم كان حريصًا على الدنيا ممسكًا بحطامها... لقد ماتوا... ونحن -أمثالهم جميعًا- سوف نموت. ***
ومع يقيننا بهذا فالعجيب أن يظللننا في دنيانا: طول الأمل والتسويف والتأجيل، نقول: غدًا نُقلِع، غدًا نتوب! غدًا نشبع من ملذات الدنيا فنزهد فيها! وعجبًا؛ "أيظن الخائض في الدنيا أن له فراغًا عنها؟ هيهات، ما يفرغ منها إلا من اطرحها: فما قضى أحد منها لُبانَتَهُ
***
ولا انتهى أرب إلا إِلى أرب أيتوهم المسوف بالتوبة أن لمرحلة الهوى آخر؟ كلا؛ إن الذي يقطعه عن الإنابة اليوم معه في غد، وما يزيده مرور الأيام إلا رسوخًا"(اللطائف لابن الجوزي)، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الشيخ يكبر ويضعف جسمه، وقلبه شاب على حب اثنين: طول العمر، والمال"(متفق عليه، وهذا اللفظ لأحمد). فبادر قبل أن تُبادَر، وتب إلى ربك وارجع، فقد رأينا الله -عز وجل- قد أمر بالتوبة المؤمنين كما حث عليها المسرفين، فقال -تعالى- للمؤمنين: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31]، وقال -سبحانه- يحث المسرفين: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
***
وأصدقك القول: إنك لن تتوب إلى الله صادقًا إلا إذا وقفت مع نفسك وقفة محاسبة -تستقبل بها هذا العام الجديد- قائلًا لنفسك: "يا نفس: لماذا قلتِ كذا، يا نفس: أتذكرين حين فعلتِ كذا؟ يا نفس: أما كفاك عامًا قد مر من عمرك كله خطايا وأوزار، وقبله أعوام كثيرة من غفلة وتضييع! يا نفس: لطالما عملت لدنياك فترى ماذا قدمت لآخرتك؟! يا نفس: أملك طويل والموت قريب وهول القيامة شديد! يا نفس: فيما تأملين؛ أأن تخلدي في الدنيا! أما سمعت قول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)[الزمر: 30]، فكيف أنتِ تخلدين! يا نفس: وماذا تنتظرين؛ أمرضًا يقطعك عن شهوات حرام لم تقلعي عنها اختيارًا، أم هرمًا يقعدك عن مساع ذميمة فتتركينها إجبارًا، أم موتًا يخلعكِ ويقتلعكِ من رغائب ولذائذ انغمستِ فيها فتفوتك لذتها ويبقى عليك تبعاتها!
يا نفس: ويحك، ينصحك الناصح ولا تنتصحين، ويعظك الواعظ فلا ترتدعين، ويعلوك الشيب فلا تنزجرين! كأنك في مأمن من موت وبرزخ وبعث وحساب وجزاء وهول يوم عظيم!...". فإن حاسبت نفسك فحري أن تكون من الفالحين المفلحين، وإن وافقتها على هواها فاسترسلت في غيها فالخوف عليك كبير أن تكون من الغافلين الذين يحشرون يوم القيامة في زمرة الخاسرين! وقد جاء عن الحبيب البشير النذير -وإن كان بسند ضعيف- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله"، ومعنى قوله: "من دان نفسه": حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة. ويروى عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا". ويروى عن ميمون بن مهران أنه قال: "لا يكون العبد تقيًا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه"(الترمذي).
وفي الكتاب الحكيم من كلام رب العالمين -سبحانه وتعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18]، وكلمات ربانية تجلب الحسرة وتقطع السكرة وتوقظ من الغفلة يقول فيها -أحكم الحاكمين-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون: 9-11]. فيا نفس: على عتبات هذا العام الجديد فألقي اليأس والتيئيس، والبسي لهذا العام ثوب الأمل والاستبشار، واعزمي فيه على خير تجدي الخير، وعلى هذى يهبك الله الهدى... وما مر من عمرك فاستغفري الله منه، وابكي لتقصيرك وإطاعة هواك وشيطانك، وأقلعي -أيتها النفس- عن غيك، وتوبي عسى أن تكوني من الناجين. ***
هذا، وما جاءت هذه الكلمات إلا من فيض رب العالمين، ثم من كلمات النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-، ثم من خطب لخطبائنا المفوهين قد نقلت لك ها هنا بعضها:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم