عناصر الخطبة
1/ تأملات في رحيلِ عام واستِقبال آخر 2/ وقفة مُحاسبَة بين عام وعام 3/ كفى بالموتِ واعظًا 4/ نعم الله على أهل بلاد الحرمين 5/ أهمية وحدة الصف وتوحيد الكلِمة 6/ وجوب شكر نعمة الأمن والأمان.اقتباس
الآجالُ مضرُوبة، والأيامُ معدُودة، والأرزاقُ مقسُومة، ولن يُعجِّلَ الله شيئًا قبل أجَلِه، ولن يُؤخِّرَ شيئًا بعدَ موعِدِه، ونعوذُ بالله مِن عذابٍ في النار، وعذابٍ في القَبرِ؛ فاحذَر -حفِظَك الله- أن يكون عُمرُك عليها حُجَّة، وأيامُك عليك شِقوَة. إن الموتَ لا يستمِعُ لصَرخَةِ ملهُوف، ولا لحَسرَة مُفارِق، ولا لرَغبَة راغِب، ولا لخَوفِ خائِف. واحذَر ثم احذَر أن يكون خَوفُك مِن الموتِ قلَقًا مِنك على الحياة...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ لله تفرَّد بالعزِّ والقَهر والكِبرياء، واستأثَرَ بالمُلك والتدبير والبقاء، قهرَ الخلقَ بما كتبَ عليه من الفناء، أحمدُه - سبحانه - والَى بالإنعام النِّعمَ المُتكاثِرة، وحذَّر بالانتِقام بالنِّقَم القاهِرَة، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، له الحمدُ في الأولى والآخرة.
وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أيَّدَه بالحُجَج الظاهِرة، والبراهِين الباهِرة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه النُّجُوم الزاهِرة، والكواكِب السَّائِرة، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا لا تحصُرُه حاصِرة.
أما بعد: فأُوصِيكم -أيها الناس- ونفسِي بتقوَى الله، فاتَّقُوا اللهَ -رحِمَكم الله-، وحاسِبُوا أنفُسَكم؛ فمَن حاسَبَ نفسَه عُرِف بلَيلِه والناسُ نائِمُون، وبنهارِه والناسُ مُفطِرٌون، وبورعِه والناسُ يخلِطُون، وبصَمتِه والناسُ يخُوضُون، وبخَوفِه إذا الناسُ غافِلُون. يحفَظُ لِسانَه، ويبكِي على خطيئتِه.
كفَى بخشيةِ الله عِلمًا، وكفَى بالاغتِرار جَهلًا، وتركُ الخطيئة خيرٌ مِن طلبِ التوبة، ورُبَّ شَهوةِ سَاعة أورَثَت حُزنًا طَويلًا، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
عباد الله: في توديعِ عامٍ واستِقبال آخر، يجدُرُ بالنَّفسِ أن تقِفَ وقفةَ مُحاسبة، وقفةَ صِدقٍ وتفكُّرٍ، واعتِبارٍ ومُساءَلة؛ فمَن حاسَبَ نفسَه في دُنياه خفَّ عليه حِسابُه في أُخراه، ومَن أهملَ المُحاسَبَة دامَت عليه الحَسرة، وساءَه المُنقلَبُ والمصيرُ
معاشِرَ الأحِبَّة: وخيرُ مُذكِّرٍ، وأعظمُ واعِظٍ: ذِكرُ هادِم اللذَّات، ومُفرِّق الأحِبَّة والجماعات. حفِظَكم الله! جديرٌ بمَن الموتُ مصرَعُه، والقبرُ مضجَعُه، والقِيامةُ موعِدُه، والجنةُ أو النارُ مورِدُه، جديرٌ به ألا يكون له تفكيرٌ إلا في المصير، والنظرِ إلا في العاقِبة؛ فالقبرُ مقرٌّ، وبطنُ الأرض مُستقرٌّ.
تفكيرٌ في الأجَل، والاستِعداد له، والاهتِمام به؛ فإن كلَّ ما هو آتٍ قريب، وأما ما ليس بآتٍ فهو البعيد. فلا تتعامَى - يا عبد الله - عن المصرَع؛ فإن النَّفَسَ قد يخرجُ ولا يعُود، فأنت غرِيمُ المنايا، وأسيرُ الأمانِي، وإن عسكرَ الموتَى لا ينتظِرُون.
يا عبدَ الله! مَن ذكَرَ الموتَ حقيقةَ ذِكرِه رشَّدَه في لذَّاتِه، وزهَّدَه في آمالِه.
والإمامُ القُرطبيُّ -رحمه الله- يقول: "النُّفوسُ الرَّاكِدة ولقُلوبُ الغافِلَة تحتاجُ إلى تطوِيلِ الوُعَّاظ، وتزويقِ الألفاظ، وإلا فإن في قَولِه تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185] ما يكفِي السَّامِع، ويشغَلُ النَّاظِر".
ذِكرُ الموتِ - يا عباد الله - يُورِثُ الحذَرَ مِن الدنيا الفانِية، والاشتِغال بالدارِ الباقِية.
ذِكرُ الموتِ يُخفِّفُ عن أهلِ الضِّيقِ ضِيقَهم، ويُسهِّلُ عليهم مُعاناتهم، وحالُ الضِّيقِ لا يَدُوم.
يقولُ كعبٌ -رحمه الله-: "مَن عرفَ الموتَ هانَت عليه مصائِبُ الدُّنيا وهُمومُها".
أما ذوُو الطَّول والسَّعَة فإن تذكُّرَ الموتِ يمنَعُهم مِن الاغتِرار بسَعَتهم، والرُّكُون إلى دعَتِهم.
أخرجَ الغمامُ النسائيُّ وغيرُه مِن حديث عُمر بن الخطَّاب وأبي هريرة -رضي الله عنهما-، أن رسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "أكثِرُوا مِن ذِكرِ هادِمِ اللذَّات"، قُلنا: يا رسولَ الله! وما هادِمُ اللذَّات؟ قال: "الموت".
ويقولُ يَزيدُ الرَّقاشيُّ -رحمه الله-: "أيها الناس! ألا تبكُون؟! كيف يعيشُ مَن الموتُ طالِبُه، والقَبرُ بيتُه، والترابُ فِراشُه، والدُّودُ أنيسُه، ومِن بعد ذلك الفزعُ الأكبرُ، ثم إما إلى الجنة وإما إلى النار".
ذِكرُ الموتِ - غفرَ الله لي ولكم - يُورِثُ تعجِيلَ التوبة، وقناعةَ القلبِ، ونشاطَ العِبادة، إما نِسيانُ الموتِ فيُورِثُ تسويفَ التوبة، وعدمَ الرِّضا بالكَفافِ، والكسلَ في العِبادة.
فتفكَّرُوا - رحمكم الله -، تفكَّرُوا في الموتِ وسكَرَاته، والكأسِ ومرارَتِه.
وإنه لوعدٌ ما أصدَقَه! وحاكِمٌ ما أعدَلَه! كفَى به للموتِ مُقرِّحًا، وللعُيُون مُبكِّيًا، وللجماعاتِ مُفرِّقًا، وللأمنيَّات قاطِعًا.
يقولُ السُّدِّيُّ -رحمه الله- في قولِه تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2]، قال: "أيُّكُم أكثرُ للموتِ ذِكرًا، وله أحسنُ استِعدادًا، ومِنه أشدُّ خوفًا وحذَرًا".
معاشِرَ الأحِبَّة: وأنجَعُ طريقٍ لذِكرِ الموتِ وأصدَقُها، التذكُّر المُفيد والمُرقِّق للقُلُوب، أنجَعُ ذلك وأصدَقُه: أن يذكُرَ المرءُ أقرانَه الذين مضَوا، فيتذكَّرُ مناصِبَهم وأحوالَهم وأعمالَهم وآمالَهم، كيف محَا التُّرابُ صُورَهم، وبدَّد أجزاءَهم؟!
الأزواجُ ترمَّلَت، أو تزوَّجَت، والأطفالُ تيتَّمُوا، والأموالُ قُسِمَت، والمجالِسُ مِنهم خلَت، وآثارُهم انقطَعَت. خلَّفُوا الأحباب، وتقطَّعَت الأسباب، أعفَت عليهم الآثار، وخلَت مِنهم الدِّيار، والسَّعيدُ مَن وُعِظَ بغَيرِه.
أيها المُسلمون: وللمَوتِ سكَرَاتٌ وكُرُباتٌ وغَمَراتٌ، وقد قال نبيُّنا مُحمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وهو في حالِ الاحتِضار: "لا إله إلا الله، إن للموتِ لسَكَرَات!".
ويقولُ - عزَّ شأنُه -: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19]، ويقولُ - جلَّ شأنُه -: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام: 93].
والإيمانُ لا يُقبَلُ إذا حضَرَ الموت، والتوبةُ لا تنفَعُ إذا غرَغرَ العبدُ.
يقولُ -عزَّ شأنُه-: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) [النساء: 17، 18].
وإذا نزلَ الموتُ تمنَّى المرءُ العودةَ إلى الدُّنيا؛ فإن كان كافِرًا فلعلَّه أن يُسلِم، وإن كان عاصِيًا فلعلَّه أن يتُوب، يقولُ - عزَّ شأنُه -: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) [المؤمنون: 99، 100].
وحينما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أحبَّ لِقاءَ اللهَ أحبَّ الله لِقاءَه، ومَن كرِهَ لِقاءَ الله كرِهَ الله لِقاءَه"، قالت عائشةُ أو بعضُ أزواجِه -رضي الله عنهنَّ-: إنا لنَكرَهُ الموتَ، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ليس كذلك، ولكن المُؤمنُ إذا حضَرَه الموت بُشِّر برِضوانِ الله وكرامتِه، فليس شيءٌ أحَبَّ إليه مما أمامَه، فأحبَّ لِقاءَ الله، وأحبَّ الله لِقاءَه، وإن الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّر بعذابِ الله وعُقُوبتِه، فليس شيءٌ أكرَهَ إليه مما أمامَه، فكَرِهَ لِقاءَ الله، وكرِهَ الله لِقاءَه"؛ أخرجه البخاري.
والجنازةُ الصَّالِحة تقولُ: "قدِّمُونِي، قدِّمُونِي"، وغيرُ الصَّالِحة تقولُ: "يا وَيلَها! أين تذهَبُون بها؟! يسمَعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمِعَها الإنسانُ لصَعِق" (رواه البخاري).
عباد الله: وما يحدُثُ للميِّت حالَ الاحتِضار لا نُشاهِدُه، لا نراهُ، ولكن نرَى آثارَه، يقولُ - عزَّ شأنُه -: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين) [الواقعة: 83- 87].
وأهلُ الإيمان حالَ الاحتِضار تتنزَّلُ عليهم الملائِكةُ - كما قال جمعٌ مِن أهل التفسير -، (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [فصلت: 30، 31].
أما الكفَرَة -عِياذًا بالله- فقد قال الله -عزَّ وجل- فيهم: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الأنفال: 50].
ويقولُ الحافظُ ابنُ الجوزيُّ -رحمه الله-: "مِن أطرَفِ الأشياءِ إفَاقَةُ المُحتضَر عند مَوتِه؛ فإنه يتنبَّهُ انتِباهًا لا يُوصَفُ، ويقلَقُ قلَقًا لا يُحَدُّ، ويتلهَّفُ على زمانِه الماضِي، ويوَدُّ لو تُرِكَ يتدارَكُ مَفاتَه، ويصدُقُ في تَوبتِه على مِقدارِ يقينِه بالموت، ويكادُ يقتُلُ نفسَه قبلَ موتِها بالأسَفِ".
وبعدُ .. عباد الله: فالموتُ حَتمٌ، و(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26، 27].
الآجالُ مضرُوبة، والأيامُ معدُودة، والأرزاقُ مقسُومة، ولن يُعجِّلَ الله شيئًا قبل أجَلِه، ولن يُؤخِّرَ شيئًا بعدَ موعِدِه، ونعوذُ بالله مِن عذابٍ في النار، وعذابٍ في القَبرِ.
فاحذَر - حفِظَك الله - أن يكون عُمرُك عليها حُجَّة، وأيامُك عليك شِقوَة. إن الموتَ لا يستمِعُ لصَرخَةِ ملهُوف، ولا لحَسرَة مُفارِق، ولا لرَغبَة راغِب، ولا لخَوفِ خائِف.
واحذَر ثم احذَر أن يكون خَوفُك مِن الموتِ قلَقًا مِنك على الحياة.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
نفَعَني اللهُ وإياكم بِكِتابِه، وبهَديِ نبيِّه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخَطيئةٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله عظيم الشَّأن، قَدِيم الإحسان، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُهُ هو الباقِي وكلُّ مَن عليها فَان، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له المُتفرِّدُ بالمُلك والتدبيرِ والسُّلطان، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه هو خاتمُ النبيين ودِينُه خَيرُ الأديَان، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ.
أما بعد .. معاشِر المُسلمين: ومِن وقَفَات المُحاسَبة، والنَّظر في العواقِب، والاعتِبار بالأحداث: الخَوفُ مِن مُضِلَّات الفتَن، فِتنٌ - عِياذًا بالله - تتزيَّنُ أو تتسلَّلُ بألقابٍ مُغلَّفة، أو أقنِعةٍ مُزخرَفة، فيَمتَطِيها الأشرار، ويُفتَنُ بها الأغرار.
ومما يستَحِقُّ التوقُّف والتأمُّل مِن هذه المُضِلَّات: ما تجلبُه الغفَلَات.
وإن مِن أعظم ما تجلِبُه الغَفلَة: الملَلَ مِن نعمِ الله، والرَّغبةَ في التغيير؛ استِبدالًا للذي هو أدنَى بالذي هو خير، وهل رأيتُم - بعد نِعمةِ الإسلام - أعظمَ مِن نعمةِ الأمنِ، ورغَدِ العَيشِ، واجتِماعِ الكلِمَة؟!
ولقد ذكرَ القُرآنُ الكريمُ نموذجًا عجيبًا حين جسَّدَ معيشةَ أقوامٍ ورغَدَ عيشِهم، وحياتَهم الفارِهَة، فقال - عزَّ شأنُه -: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ: 15].
فضَجِرُوا مِن هذه النِّعَم الوافِرة، ومَلُّوا هذا العَيشَ الكريمَ، فتوجَّهُوا إلى ربِّهم بهذا الطلَبِ العجيبِ: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [سبأ: 19]؛ نعوذُ بالله مِن الحَور بعد الكَور.
أبَوا إلا أن يُجرِّبُوا حياةَ الدَّمار والتمزيق، والوبَال والنَّكال، والتفريقِ والشَّتات، والضَّياع والعذاب.
يقولُ الإمامُ ابنُ جريرٍ -رحمه الله-: "لقد بطَرَ القَومُ نِعمةَ الله، وغمَطُوا كرامَةَ الله، وظلَمُوا أنفُسَهم"، فكان الجزاءُ: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ: 19].
ما أشبَهَ الليلةَ بالبارِحة! حينما ترَى غافِلِين، أو أعداءً حاقِدِين يدعُون إلى حِراكاتٍ أو إلى تجمُّعاتٍ، وكأنَّهم ما علِمُوا - أو قد علِمُوا - أنها مُستنقَعٌ وبِيءٌ تغرَقُ فيه الشُّعُوب، وتكثُرُ فيه الأوبِئةُ والأمراضُ، وتُفتَحُ فيه الأبوابُ العريضةُ للتشرُّد والمُنكَرَات.
أيُّ عقلٍ لمَن يُنادِي ليهدِمَ بيتَه؟! ومِن ثَمَّ يفتَرِشُ الغَبرَاء، ويلتَحِفُ السَّماء، ويعيشُ في العَراء!
وهل مِن عاقِلٍ يخلَعُ ثِيابَه ليُبدِيَ سَوءَتَه، ويكشِفَ للناسِ عَورَتَه؟! كيف يسعَى عاقِلٌ للتنكُّر للنِّعم ليستنزِلَ العُقُوبات والنِّقَم؟!
دعواتٌ تقُومُ على الإفسادِ، والخُروجِ على الجماعة والإمامة، ومُنازَعَة الأمر أهلَه، وذلك لا يحِلُّ في دينِنا ولو بشَطرِ كلِمةٍ.
لا يُمكنُ لسَوِيٍّ أن يسعَى في خَرابِ بيتِه، وتمزيقِ وطنِه، وتشتِيت أهلِه، وتعريضِ دمِهِ وعِرضِه الخطر.
كما أن غيرَ المُخلِصِ لا يصنَعُ فِكرًا، وغيرَ الصَّادِقِ لا يَحمِي وطَنًا، والمُنافِقُ يُوافِقُ إذا خافَ وطمِع، ويتنكَّرُ إذا أمِنَ وشَبِع، يمشِي مع أطماعِه إن وافَقَت وافَقَ، وإن تغيَّرَت تغيَّرَ. قد عمِيَت عند هؤلاء جميعًا البصائِرُ، تناقَضُوا وهم لا يشعُرُون.
أما مساراتُ أصحابِ الفِطَر السليمة، والعُقُول المُستقيمة، وشاكِرِي النِّعَم، والفارِّين مِن الفِتَن فيلتَزِمون ما جاءَ به الشَّرعُ المُطهَّر، وزخَرَت به نُصُوصُ الكِتابِ والسنَّة مِن وُجوبِ الاجتِماع، ونَبذِ الفُرقةِ والضَّياع؛ جَمعًا للكلِمَة، وقَطعًا لدَابِرِ الفِتنة.
ونحن في هذه البِلاد المُبارَكة، بِلاد الحرمَين الشريفَين: المملكةِ العربيةِ السعوديةِ نعيشُ في نعمٍ عظيمةٍ، وآلاءٍ جَسِيمة، ومِنَحٍ مِن ربِّنا جَلِيلة، نسألُه -سبحانه- بمنِّه وكرمِه أن يُدِيمَها ويُتِمَّها ويحفَظَها، أجَلُّها نِعمةُ التوحيد: توحيدِ الله وحُسن عِبادتِه، ثم توحيدِ البِلاد واجتِماع الكلِمة، ونعمةِ الأمن ورغَدِ العيش، ونعمةِ الالتِفافِ حول القِيادة، وانتِشار العلمِ والعُلماء، ونعمةِ العيشِ في رِحابِ المُقدَّسات الحرمَين الشريفَين.
نعيشُ هذه النِّعَم الجِسام في زمنٍ كثُرَت فيه الفِتَن والمِحَن، والقتلُ والتشريدُ، والدمارُ والخرابُ. وما حالُ مَن حولَكم مِنكم ببعيدٍ ممن ذاقُوا وَيلَات الفِتَن، ومآسِي الخُروج، أعادَ الله لهم أمنَهم، وجمعَ على الحقِّ كلِمَتَهم، وردَّ عليهم غُربتَهم.
إن الحِفاظَ على البلاد، والالتِفافَ حولَ وُلاة الأُمُور واجِبٌ شرعيٌّ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]؛ ويقولُ -عليه الصلاة والسلام-: "تَلزَمُ جماعةَ المُسلمين وإمامَهم".
وإن مسؤوليَّتَكم جميعًا -والموقِفُ موقِفُ مُحاسبةٍ- أن تجتَهِدُوا في تحصينِ أنفُسِكم وأهلِيكُم مِن هذه الفتَن بلُزُوم فَهم السلَف الصَّالِح، ومسلَك أهل السنَّة والجماعة في لُزُوم السَّمع والطاعة، والدُّعاء بالثَّباتِ والصَّلاحِ والإصلاحِ، والتواصِي بالحقِّ، والتواصِي بالصبر، والتناصُح المُخلِص.
وعليكُم أن تعلَمُوا أن الحقَّ - ولله الحمدُ - مع أهلِ العلمِ الأثباتِ، قد رأيتُم مواقِفَهم القوية الثابِتة فيما مرَّ بالمنطِقة مِن أحداثٍ، فكان الخَيرُ والحقُّ فيما قالُوه وأفتَوا بِه، أما غيرُهم فكانت عواقِبُهم الخُذلان والانتِكاس.
ألا فاتَّقُوا اللهَ -رحِمَكم الله-، وسِيرُوا في الدِّيار، وانظُرُوا في الآثار، وتفكَّرُوا فيمَن سبَقَكم ماذا فعَلُوا، وعمَّا انتَقَلُوا، وأين حلُّوا، وكيف نزَلُوا؟!
فأعجَبُ العجَبِ: سُرورٌ في غُرُور، وسَهوٌ في لَهوٍ. فأصلِح مَثوَاك حفِظَك مَولَاك، ولا تبِع آخرتَك بدُنياك.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على الرحمةِ المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّكُم محمدٍ رسولِ الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم في مُحكَم تنزيلِه، فقالَ - وهو الصادِقُ في قِيلِه -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك: نبيِّنا وسيِّدنا وحبيبِنا محمدٍ الحَبيبِ المُصطَفى، والنبيِّ المُجتَبَى، وعلى آله الطيبين الطاهِرِين، وعلى أزواجِه أمهاتِ المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاءِ الأربعةِ الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وإحسانِك وكرمِك يا أكرَمَ الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمُشركين، واخذُل الطغاةَ، والملاحِدَة، وسائرَ أعداءِ المِلَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمُورِنا، واجعَل اللهم ولايتَنَا فيمن خافَك واتَّقاك واتَّبَع رِضاكَ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا وولِيَّ أمرِنا بتوفيقِك، وأعِزَّه بطاعتِك، وأَعلِ به كلمَتَك، واجعَله نُصرةً للإسلامِ والمسلمين، ووفِّقه ونائبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وتَرضَى، وخُذ بنواصِيهم للبِرِّ والتقوَى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمورِ المسلمين للعملِ بكتابِك، وبسنَّةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، واجعَلهم رحمةً لعبادِك المؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ والهُدَى يا ربَّ العالمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم احقِن دماءَهم، واجمَع على الحقِّ والهُدى والسنَّةِ كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرَّخاءَ في ديارِهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتَن ما ظهَرَ منها وما بَطَن.
اللهم مَن أرادَنا وأرادَ دينَنا ودِيارَنا وأمَّتَنا وأمنَنا ووُلاةَ أمرِنا وعُلماءَنا وأهلَ الفضل والصلاح والاحتِساب منَّا ورِجالَ أمنِنا وقُوَّاتنا ووحدتنا واجتِماع كلِمَتنا بسُوءٍ، اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نَحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا قويُّ يا عزيز.
اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطِين، اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطِين على الحُدود، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وشُدَّ أزرَهم، وقوِّ عزائِمَهم، وثبِّت أقدامَهم، واربِط على قلوبِهم، وانصُرهم على مَن بغَى عليهم، اللهم ارحَم شُهداءَهم، واشفِ جرحَاهم، واحفَظهم في أهلِهم وذُريَّاتهم، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم يا ولِيَّ المُؤمنين، ويا ناصِرَ المُستضعَفين، انصُر إخوانَنا المُستضعَفين المظلُومين في فلسطين، وفي بُورما، وفي أفريقيا الوُسطى، وفي ليبيا، وفي العِراق، وفي اليمَن، وفي سُوريا، قد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكَربُ، واشتَدَّ عليهم الأمرُ، اللهم انتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشِف كَربَهم، وارفَع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قُلوبِهم، واجمَع كلمَتَهم، اللهم مُدَّهم بمَدَدِك، وأيِّدهم بجُندِك، وانصُرهم بنصرِك.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالِمين ومَن شايعَهم ومَن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كلَّ مُمزَّق، اللهم واجعَل تدميرَهم في تدبيرِهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الصَّهايِنة، اللهم عليك باليهود الصَّهايِنة الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا نَدرَأُ بك في نُحورِهم، ونعُوذُ بك من شُرورهم.
اللهم اغفِر ذُنُوبَنا، واستُر عيُوبَنا، ونفِّس كُرُوبَنا، وعافِ مُبتَلانا، واشفِ مرضانا، وارحَم موتَانا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]؛ فاذكُرُوا اللهَ يذكُركُم، واشكُرُه على نعمِه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعُون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم