اقتباس
وعلى كل فقد اتفق المحققون من العلماء على بدعية تخصيص هذه الليلة عن باقي الليالي بعبادة، يجمل الشيخ ابن جبرين قائلًا: "لم يثبت في فضل ليلة النصف من شعبان خبر صحيح مرفوع يعمل بمثله حتى في الفضائل... وعلى هذا فلا يشرع إحياء تلك الليلة ولا صيام نهارها ولا تخصيصها بعبادة معينة، ولا...
صيام شهر رمضان فريضة محكمة لا مراء فيها، أما إن سألت عن أكثر شهر يصام فيه تطوعًا؟ فإنه بلا شك شهر شعبان؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "..فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان"(متفق عليه).
أما عن السبب في كثرة تطوعه -صلى الله عليه وسلم- في شعبان، فهو أنه شهر تُرفع فيه الأعمال إلى الله -تعالى-؛ فقد سأل أسامةُ بن زيد الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فأجابه: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"(رواه النسائي، وحسنه الألباني).
***
فشهر شعبان خير وبركة كله؛ أوله وأوسطه وآخره، لكن أقوامًا أبوا إلا أن يجعلوا فضلًا خاصًا لليلة النصف من شعبان وحدها على سائر الشهر، محتجين في ذلك بأحاديث بعضها موضوع، وبعضها ضعيف، وبعضها مختلف في تحسينه أو تضعيفه!
فكان مما اختصوا به ليلة النصف من شعبان: النزول الإلهي فيها إلى سماء الدنيا، ومغفرته -عز وجل- فيها لعباده، محتجين بحديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب".
وهذا الحديث قد حكم عليه المحدثون بالضعف؛ فقد رواه الترمذي وقال: "..وسمعت محمدًا (يعني البخاري) يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج بن أرطاة لم يسمع من يحيى بن أبي كثير"، وكذلك رواه البيهقي في الشعب وحكم عليه بالإرسال والضعف، وضعفه الإمام الألباني وغيره.
وإلى جانب ذلك فإنه قد ثبت أن الله -تعالى- ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة عند السحر، لا في ليلة النصف من شعبان وحدها، ففي الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني، فأستجيب له من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له".
ومما اختصوا به النصف من شعبان -أيضًا-: صوم نهارها وقيام ليلها، محتجين بحديث: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها وصوموا نهارها".. والحديث ضعيف أو موضوع، قال محمد فؤاد عبد الباقي: "في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف ابن يسرة.. قال فيه أحمد بن حنبل وابن معين: يضع الحديث"، وقال الألباني: "ضعيف جدًا أو موضوع".
ولعل أقوى ما يحتجون به لإثبات فضل خاص لليلة النصف من شعبان هو حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن".
وهذا الحديث رواه ابن ماجه، وقد اختلف العلماء فيه؛ فمنهم من ضعفه، ومنهم من حسنه أو صححه، فأما محمد فؤاد عبد الباقي فقد قال: "في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة وتدليس الوليد بن مسلم"، وكذا قاله البوصيري في "مصباح الزجاجة".
أما الألباني فقد ضعَّفه في "المشكاة"، ثم حسَّنه في "صحيح الجامع"، ثم قال في الصحيحة (1144): "وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح".
ثم لقد ثبت في صحيح مسلم أن هذه المغفرة وهذا الاستثناء منها، يكون مرتين في الأسبوع الواحد، وليس مرة واحدة فقط في السنة؛ فعن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا".
وعلى القول بصحة الحديث، فليس فيه دليل على تخصيصها بعمل أو بعبادة، يقول ابن تيمية: "ولو سوغ أن كل ليلة لها نوع فضل، تخص بصلاة مبتدعة يجتمع لها، لكان يفعل مثل هذه الصلاة أو أزيد أو أنقص ليلتي العيدين، وليلة عرفة"(اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية)، ويعود فيؤكد ذلك قائلًا: "وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من يصلي فيها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة، وكذلك الصلاة الألفية"(الفتاوى الكبرى، لابن تيمية).
وابن تيمية يقصد "الصلاة الألفية" التي أحدثوها وابتدعوها في ليلة النصف من شعبان، ويزيد قائلًا: "الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث"(اقتضاء الصراط المستقيم)، وفي "تحفة الأحوذي" للمباركفورى: "قال علي بن إبراهيم: ومما أحدث في ليلة النصف من شعبان الصلاة الألفية؛ مائة ركعة بالإخلاص عشرًا عشرًا بالجماعة، واهتموا بها أكثر من الجمع والأعياد، لم يأت بها خبر ولا أثر إلا ضعيف أو موضوع، ولا تغتر بذكر صاحب القوت والإحياء وغيرهما".
وعلى كل فقد اتفق المحققون من العلماء على بدعية تخصيص هذه الليلة عن باقي الليالي بعبادة، يجمل الشيخ ابن جبرين قائلًا: "لم يثبت في فضل ليلة النصف من شعبان خبر صحيح مرفوع يعمل بمثله حتى في الفضائل... وعلى هذا فلا يشرع إحياء تلك الليلة ولا صيام نهارها ولا تخصيصها بعبادة معينة، ولا عبرة بكثرة من يفعل ذلك من الجهلة، والله أعلم".
***
وفي كل عام تثور قضية إذا ما انتصف شعبان فحواها؛ هل نصوم في النصف الآخر من شعبان أم لا نصوم؟ وسبب ذلك ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا"، وفي لفظ: "إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا"(رواه الترمذي وأبو داود، وصححه الألباني).
ويحسم هذه القضية قولُ الترمذي -رحمه الله-: "ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن يكون الرجل مفطرًا، فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان، وقد روي عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يشبه قولهم، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقدموا شهر رمضان بصيام، إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم"، وقد دل في هذا الحديث أنما الكراهية على من يتعمد الصيام لحال رمضان".
وفيما يلي من خطب قيمة تأصيل وتفصيل وإيضاح وزيادة على ما نقلنا، فإليك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم