ليلة النصف من شعبان

محمد أحمد العامري

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ فضل ليلة النصف من شعبان 2/ سعة مغفرة الله وكيفية الحصول عليها 3/ خطر الشرك وبعض صوره 4/ خطر الشحناء وبعض صورها

اقتباس

إن من صدق التوبة: أن تندم على الماضي، فالذي وقع في الزنا يندم؛ لأنه وقع في الفاحشة، ويستحيي أن يتذكرها، ويخاف من الله -جل وعلا-، ماذا سيقول له يوم القيامة.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا) [الفرقان: 61].

أحمده -تعالى- وأستعينه وأستهديه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 102 - 103].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].

(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2-3].

 

اللهم إنا نسألك أن تؤلف على الخير قلوبنا، وأن تلمَّ شعثنا، وأن ترفع رايتنا، وأن تنصرنا على عدوك وعدونا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

أما بعد:

 

عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" [رواه ابن ماجة، والطبراني، وابن حبان، وحسنه الألباني].

 

ما معنى هذا الحديث؟

 

أولاً: شهر شعبان، شهر يحبه النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان عليه الصلاة والسلام قبل أن يدخل شعبان، وقبل أن يصل رمضان، يقول: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان" [رواه أحمد والطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 2/ 375: "رواه البزار، وفيه زائدة بن أبي الرقاد، قال البخاري: "منكر الحديث، وجهله جماعة" وضعفه الألباني].

 

بل قال عائشة -رضي الله عنها-: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهراً أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله" [رواه البخاري ومسلم].

 

بل كان صلى الله عليه وسلم يحث أمته على صيام شهر شعبان.

 

ما سر ذلك؟ أهو تهيئة لدخول رمضان؟

 

إن شهر شعبان كله مبارك، ومن أكبر بركاته: أن الله القوي الجبار، يطلع في ليلة النصف من شعبان على خلقه.

 

فأي شرف لنا هذا؟!

 

إنه شرف عظيم، هو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7].

 

(أَيْنَ مَا كَانُوا) في بر، أو بحر، أو جو، فالله يعلم: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].

 

يعلم دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، في أعماق البحر.

 

لكن انظر إلى هذه الليلة: "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان" إلى من يطلع؟ أإلى جبال صماء؟ أم إلى بحور متلاطمة الأمواج؟ أم إلى أتربة وصحاري؟

 

إنه يطلع عليكم -أيها المؤمنون-، فالله يعلم ما في السماء من طيور وهواء، وعواصف ورعود، وأمطار ومخلوقات، ويعلم ما في الأرض من أحياء وأموات، ومن دواب وإنسان: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ).

 

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4].

 

زيادة على ذلك: "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان".

 

ماذا بعد ذلك؟

 

"فيغفر لجميع خلقه".

 

وبعد أن يطلع الله -جل وعلا- سيجد منا العاق لوالديه! ويجد المؤذي لجيرانه! والذي يأكل الربا! والذي ينظر إلى الحرام! والذي يأكل الحرام! ويسمع الحرام!.

 

كلنا مقصرون، لا أحد منا يقول: أنا لا أعصي! كل الأمة تقع في الخطأ: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32].

 

هو يعلم من أنت، لو لم تذنب يداك لأذنبت عيناك، ولو لم تذنب عيناك لأذنبت أذناك، ولو لم تذنب أذناك، لأذنب فرجك، وقدمك، ويدك، ولسانك.

 

أقلها؛ حقد في القلوب، وسوء في النفوس.

 

إنه جل وعلا يطلع في هذه الليلة ليغفر الذنب، ويستر العيب، لكن لمن تاب.

 

إن من صدق التوبة: أن تندم على الماضي، فالذي وقع في الزنا يندم؛ لأنه وقع في الفاحشة، ويستحيي أن يتذكرها، ويخاف من الله -جل وعلا-، ماذا سيقول له يوم القيامة!.

 

إذًا، يغفر الله لمن يبحث عن التوبة، ولو وقع في المعصية، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكي عن ربه -عز وجل-، قال: "أذنب عبد ذنبا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي؟ فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي؟ فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك" [رواه مسلم].

 

يداوم على التوبة والاستغفار: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة: 186].

 

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له" [رواه البخاري ومسلم].

 

إذًا، يجب -أن نكون صادقين في التوبة- أن نشعر بالخوف من الله -جل وعلا-، وأننا أذنبنا في حق الله.

 

لكن هل يغفر الله -جل وعلا- للمعرض، واللاهي أو للكذاب؟

 

بعضهم -يا عباد الله- لا يشعر أصلا أنه على خطأ! يقول: الحمد الله لست على خطأ أصلا! فيظن أنه بصلوات يصليها، يجوز له أن يأكل الربا، وأن يعق والديه؛ لأن إبليس يأتيه، فيقول: لست مخطئا، إنما أبوك وأمك هم المخطؤون.

 

ويأتي إليه، فيقول: أنت لا تريد أن تأكل الربا عندما وضعت أموالك في أذون الخزانة، لكنك ستموت جوعاً إذا لم تضع أموالك في البنك!.

 

ويأتيه، فيقول: أنت لم تبحث عن الحرام، ما فتحت التلفزيون متعمداً، وقلت لهم ائتوا لنا بهذه المسلسلات الهابطة، إنما هم الذين جاؤوا بها!.

 

فيبرر له إبليس، يقول: لو كان الدخان حراماً ما باعوه، ولكانت الحكومة أصلاً منعته، ولو كانت القنوات الماجنة حرام لمنعتها الدولة، وما سمحت بفتح هذه الفنادق واللوكندات التي تنشر الأفلام الجنسية الخليعة.

 

انظر إبليس كيف يأتي فيبرر له ويفتيه؛ لذلك بعضهم لا يعلم أنه يقع في الخطأ، ولا يعلم أنه على خطأ، فهو يقول: أتوب مماذا؟ وأستغفر مماذا؟

 

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا لمشرك".

 

تعرفون من المشرك؟

 

يقول لقمان الحكيم كما ذكر الله عنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].

 

كيف لا يكون ظلماً عظيماً، والله -تعالى- هو الذي خلق ورزق، وهو الذي يخرج الحي من الميت، وأنبت الحب من الأرض اليابسة، وأنزل من السماء ماء إلى الأرض القاحلة، وهو الذي أعطى الفقير مالاً فأغناه، وأعطى المريض شفى فشفاه، ونصر المظلوم، ثم بعد ذلك يعبد غير الله!.

 

سبحان الله عما يشركون! روي في الحديث القدسي: "يقول الله: إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري" [رواه الطبراني والحكيم الترمذي، والبيهقي، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة].

 

وأي ذنب أشد من أن يذهب الإنسان إلى قبر من القبور، فيذبح عند ذلك القبر: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162].

 

حتى النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز أن نحلف به وهو حبيبنا، ولا يجوز التوسل به، وهو أستاذنا ومربينا، وشفيعنا عند الله، ولا يجوز سؤاله الجنة، ولا الاستعاذة به من النار، جاءه رجل فقال: يا رسول الله ما شاء الله وشئت! فقال: "جعلتني لله عدلاً؟! بل ما شاء الله وحده" [رواه أحمد، وهو حديث حسن].

 

فالله -تعالى- يغفر الذنب إلا لمشرك، الذي عبد غير الله، وانظر إلى إمام التوحيد، وأستاذ الأمة، كيف خاف على نفسه من الشرك؟

 

بعض الناس، يقول: الحمد لله نحن ما نذبح إلا لله، ولا نسجد إلا لله، ولا نحلف إلا بالله، ولا نتوكل إلا على الله.

 

صحيح أنك كذلك، لكن مع كل ذلك، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وتعوذ من الشرك، هذا إبراهيم -عليه السلام- يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35].

 

وهو الذي كسر الأصنام وحطمها، لذلك يقول نبيكم -صلى الله عليه وسلم-: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فقالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الرياء، يقول الله -عز وجل- لهم يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" [رواه أحمد وهو حديث حسن].

 

إن الخوف علينا من الرياء والسمعة، يطيل الرجل في صلاته من أجل أن يقال: ما شاء الله! ويبني مساجد، ليقول الناس: ما شاء الله! هذا يبني مساجد!.

 

ويتصدق فيكتب: وقد تبرع المنفق فلان بن فلان بمبلغ كذا وكذا، في الصحف والمجلات والتلفاز والإذاعة، حتى يقال: هذا منفق وكريم، وسخي وجواد، هو ما عبد الله، ولكنه عبد كلام البشر، ولم يعط لله، بل أعطى ليقال: محسن!.

 

عباد الله: وهل الله -جل وعلا- يحتاج إلى ما نذبح؟ أو يحتاج إلى صلاتنا أو صيامنا؟ أو عندما طلب منا ألا نعبد غيره، ولا نسجد لسواه، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نستعين إلا به، ولا نذبح إلا له، ولا نحلف إلا به، فهل لحاجة يريدها الله من الناس.

 

إن الله غني وليس بحاجة إلى أفعال البشر، يقول الله -جل وعلا- على لسان موسى: (وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم: 8].

 

فهو غني عن كل أعمالنا.

 

وقد جعل الله -تعالى- جزاء المشرك النار: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة: 72].

 

أجارنا الله وإياكم من النار، وسلم أفعالنا من الشرك، وجعلها على التوحيد.

 

انتبهوا -أيها المؤمنون-: إن من الشرك الذهاب للسحرة؛ لأنه يطلب من الساحر أن يأتي بشيء غيبي، أو أن يعافي مريضاً، ومن المعافي غير الله؟ ومن يعلم ما في الأرحام غير الله -جل وعلا-؟

 

إنه يطلب من الساحر والكاهن والمشعوذ والعراف أموراً لا يقدر عليها إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" [رواه مسلم].

 

فجهزوا أنفسكم لليلة النصف من شعبان، ليس بالعبادة، بل إن تخصيص ليلة النصف بعبادة بدعة لا تصح، وإنما بتصفية القلوب، قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع لخلقه إلا لمشرك أو مشاحن" أي شحناء القلوب.

 

ولا تحسبوا شحناء القلوب هينة، بل هي عظيمة عند الله، وهي داء الأمم، شتتت المجتمعات، وضيعت الأوطان وأضعفتها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في معنى المشاحن، ولماذا ربط الله بين الشحناء والشرك، ما السبب؟ لماذا لم يقل الشرك، وقطع الصلاة، أو الشرك، وعقوق الوالدين؟ لماذا الشحناء؟

 

يقول صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم" [رواه الترمذي وحسنه الألباني].

 

أي وقع فيكم -يا أمة محمد- مرض قد وقع في الأمم قبلكم، فتشتت وضعفت، وانهارت وسقطت.

 

إن هذا الداء يولد الشحناء في القلوب، ويسقط أمة بأكملها، يضيع اقتصادها وسياستها وجيوشها وقوتها وثقافتها، ولو كانت من أقوى الأمم؛ إنه داء الحسد والبغضاء.

 

وانظر -يا أخي- اليوم عندما تمر في الشارع، فتسلم على أحدهم فيستغرب، ويقول: نعم ماذا تريد؟ لماذا تسلم؟ هل بيني وبينك معرفة؟ أي خدمة؟

 

نعوذ بالله!.

 

نحن أمة السلام، أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" [رواه البخاري ومسلم].

 

واليوم بعض الناس لا يسلم حتى على من يعرف! يدخل الولد في الصباح وأبوه في المجلس بجواره، وهو يلعب، ولا يرد السلام عليه! ولا يقبل رأسه.

 

إذا لم يسلم على أبيه فهل سيسلم على أستاذه؟ وإذا لم يسلم على أستاذه فهل سيسلم على البائع في الشارع؟! بعضهم يقول: أنا أسلم على هذا؟!

 

أعوذ بالله!.

 

انظر كيف دخلت الشحناء، ونريد المطر، والنصر على اليهود، وأن نكون أمة قوية بعد ذلك؟

 

المؤمنون يقول بعضهم لبعض: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].

 

اللهم أزل الشحناء من قلوبنا.

 

اللهم اجعلنا أمة الإسلام وأمة السلام، وأمة الإيمان.

 

اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى.

 

أما بعد:

 

عذراً على الإطالة ابتداءً؛ لأن هذا الموضوع مهم، إن أردتم مغفرة الله، إن أردتم أن ندخل رمضان وقد غفر لنا قبل أن يدخل في ليلة النصف من شعبان، فهذا الموضوع في غاية الأهمية، كثرت الشكاوى، ليس من الجيران، بل ما بين الأب وأولاده، والله فيكم من هذا المسجد من اشتكى لي، فيقول: والله يا شيخ أن باب ولدي بجوار بيتي، وله أربع سنوات ولم يسلم عليَّ! وهو مع أصحابه في السيارة، وضيوفه يومياً في البيت، لا أريد منه مالاً ولا طعاماً، أريد منه وقد ربيته، وأنفقت عليه، وتعبت لأجله، وجعت ليشبع، أريد منه كلمة طيبة قبل أن أموت، وأن أقول لأصحابي: هذا ولدي بافتخار! وليس هذا ولدي بذلة وعار؟!

 

أيها المؤمنون: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا" [رواه مسلم].

 

أي لا تغفروا لهما حتى يصطلحا.

 

أترضى أن يقول الله لك: لا أقبل صلاتك ولا صيامك ولا زكاتك ولا استغفارك ولا طاعتك لوالديك؛ لأنك متشاحن مع أخيك المسلم؟!

 

أيها المؤمنون: قد تكون المشاحنة على أتفه الأسباب، تجد خصاماً بين صديق وصديقه على ألف ريال! أو على مجرى ماء بين مزرعتين، ولا يوجد مطر أصلاً، فجمعوا بين عدم المطر والتخاصم وحرمان أنفسهم من المغفرة، ومع هذا تجدهم متشاحنين عشر سنوات وهم أخوة من أب وأم!.

 

وبعضهم متخاصمين على شبر من الأرض!.

 

وأحيانا التشاحن بسبب مال، أو كلمة، وقد تكون الشحناء أحياناً بين الزوج وزوجته، في بيت واحد ومعهما أولاد، وقد يكونون متشاحنين عشرين سنة، وهو معها في بيت واحد! وعلى شيء تاف، لا يساوي شيئا.

 

بل الأشد من ذلك الشحناء في الوطنية والقومية.

 

أوروبا تتحد، والعالم الإسلامي يتمزق، اليمني بيمنيته، والمصري بمصريته، والليبي بليبيته، والسعودي بسعوديته!.

 

أعوذ بالله!.

 

اتحد إبليس مع دول أوروبا، ونحن نشتت ومعنا الله!.

 

خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- اسمع إلى هذا العجب- وأراد أن يخرج إلى الصحابة ليبشرهم، ويقول لهم: إن ليلة القدر ليلة كذا، إلى أن يبعث الله الأرض ومن عليها، فوجد اثنين يتشاحنان، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلح بينهما، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم التمسوها" [رواه البخاري] بسبب الشحناء قد نحرم خيراً كثيراً.

 

أتريد أن تصلح بينك وبين إخوانك؟ اسمع إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" [رواه البخاري ومسلم] إذا كان بينك وبين جارك مشكلة، فقل له: السلام عليكم فقط.

 

قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في النار" قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأتوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: "هي في الجنة" [رواه أحمد، وابن حبان، وهو حديث صحيح].

 

أيها المؤمنون: الشحناء صفة اليهود: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم) [البقرة: 109].

 

وأول جريمة وقعت بسبب الشحناء: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27] فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله.

 

أيها المؤمنون: الحسد يؤدي إلى الشحناء، فاصبر على كل حاسد.

 

اصبر على كيد الحسود *** فإن صبرك قاتله

النار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله

 

لذلك ربط النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الشرك والشحناء؛ لأن الشرك يحبط العلاقة بين العبد وربه، والشحناء تحبط العلاقة بين العبد وأخيه، فهي تحلق الدين وتفسده؛ لأن الدين اجتماع في الصلاة والصيام على شهر واحد، وفي الحج على وقت واحد، واجتماع في الزكاة على صفة واحدة.

 

فإذا كنا لا نجتمع في صلاة ولا صيام، ولا حج ولا زكاة، وفي قلوبنا شحناء، فقد فسد ديننا وخرب، فكيف يغفر الله لنا؟!

 

أسأل الله أن يملأ قلوبنا محبة لبعضنا.

 

اللهم اغفر لنا، واستر علينا، وتجاوز عن خطئنا.

 

اللهم ألف بين قلوبنا.

 

اللهم لا تدع لنا ذبنا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها ويسرتها، وأعنتنا على قضائها.

 

اللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان.

 

اللهم اجعلنا من الذين تغفر لهم في شعبان، ومن تكرمهم في رمضان.

 

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، أن تنصر الإسلام والمسلمين.

 

اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان، واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، واستر عيوبهم، وفك أسيرهم، واحمل حافيهم، واشف مريضهم، ورد إلينا أسراهم.

 

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

وقوموا إلى صلاتكم.

 

 

المرفقات

النصف من شعبان2

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات