اقتباس
فلسان حال من يدعو بدعوى الجاهلية: "الحق مع قومي وإن أخطئوا، والباطل مع من ناوأهم وإن أصاب"! و"ما قاله حزبي هو الخير بكل تأكيد، وما قالهم غيرهم فهو الشر بلا تفكير"! و"فصيلي مصيبون وإن تمسكوا بالباطل، وما عداهم...
حين يُنسب شيء إلى الجاهلية فإن هذا الشيء مقيت بغيض لا يمت إلى الإسلام بصلة، ولقد نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "التعصب القبلي" إلى "الجاهلية" في عدة مواقف، منها هذا الموقف الذي رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، قائلًا: غزونا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب، فكسع أنصاريًا (ضرب دبره)؛ فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ما بال دعوى أهل الجاهلية؟" ثم قال: "ما شأنهم؟" فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعوها فإنها خبيثة"، وفي لفظ: "دعوها فإنها منتنة"(متفق عليه).
فما هي تلك "المنتنة الخبيثة"؟ يجيب ابن حجر العسقلاني: "قوله: "بدعوي الجاهلية": هي قولهم يا آل فلان"(فتح الباري، لابن حجر العسقلاني)، ويتفق معه السيوطي فيقول: "دعوى الجاهلية: هو قولهم عند الأمر الحادث الشديد: يا آل فلان"(قوت المغتذي، للسيوطي).
فلسان حال من يدعو بدعوى الجاهلية: "الحق مع قومي وإن أخطئوا، والباطل مع من ناوأهم وإن أصاب"! "ما قاله حزبي هو الخير بكل تأكيد، وما قالهم غيرهم فهو الشر بلا تفكير"! "فصيلي مصيبون وإن تمسكوا بالباطل، وما عداهم من الفصائل على ضلال مهما كان الحق في صفهم"!
إن ما سمعتم هي العصبية المقيتة في أجلى معانيها؛ ألا تكون بغيتي طلب الحق ولا نصرته، بل نصرة قومي ولو كانوا على ضلال! وأن يكون ولائي وغضبي وحميتي وانتمائي لقبيلتي وقومي وعرقي لا لديني ولا لعقيدتي ولا لإسلامي!
ولقد علَّمنا ديننا عكس ذلك تمامًا؛ فعن أنس -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: "تحجزه، أو تمنعه، من الظلم فإن ذلك نصره"(رواه البخاري).
***
وإنني لا أعلم مثوى ولا مأوى ولا ملاذًا لمن تملكته العصبية الجاهلية إلا نار جهنم -والعياذ بالله-، أكد على ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جُثا جهنم"(جمع جثوة وهو الشيء المجموع)؛ فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال: "وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ولقد نزل الوحي على نبي الله موسى -عليه السلام- موافقًا لما قرره نبينَا -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أخبرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فقال: "انتسب رجلان على عهد موسى -عليه السلام-، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، حتى عد تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان بن فلان ابن الإسلام، قال: "فأوحى الله إلى موسى -عليه السلام-: أن هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة، فأنت ثالثهما في الجنة"(رواه أحمد، وصححه الألباني).
ووقف رجل على باب الفاروق عمر يستأذن في الدخول بقوله: ""استأذنوا لابن الأخيار"!، فقال عمر -رضي الله عنه-: "إيذنوا له"، فلما دخل قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن فلان، قال: فجعل يعد رجالًا من أشراف الجاهلية فقال له عمر: "أنت يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؟" قال: لا، قال: "ذاك ابن الأخيار، وأنت ابن الأشرار، إنما تعد علي رجال أهل النار""(رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي).
***
وفي يوم فتح مكة وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في الناس خطيبًا، فأرسى القواعد وأصَّل الأصول قائلًا: "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب"، قال الله: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13](رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وقد ترجم سلمان الفارسي الاعتزاز بالدين ونبذ العصبية الجاهلية شعرًا فقال:
أبى الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا ببكر أو تميم
بدعوى الجاهلية لم أجبهم *** ولا يدعوا بها غير الأثيم
وما كرم ولو شرفت جدود *** ولكنّ التّقي هو الكريم
***
ومن جملة العصبية الجاهلية في الأزمنة المتأخرة: ألا يتبع المسلم الدليل الواضح الظاهر الجلي، ويتجاهله متعمدًا لأنه يخالف ما قاله شيخه أو ما يقرره مذهبه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه عن أهل البدع والأهواء: "فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم"، ثم يقول في كلام أعم وأشمل: "فمن تعصب لأهل بلدته أو مذهبه أو طريقته أو قرابته أو لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله -تعالى- معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله، فإن كتابهم واحد ودينهم واحد ونبيهم واحد وربهم إله واحد"(مجموع الفتاوى).
وكعادتنا؛ إنما نُقدِّم ونُمهِّد ونُجْمِل ثم نترك الأمر لخطبائنا الكرام ليؤصلوا الأصول ويُقعِّدوا القواعد ويبدؤوا الأمر من بدايته حتى يصلوا به إلى نهايته... فالله -تعالى- نسأل أن ينفعهم بما قالوا، وأن ينفع بهم كل مستمع وقارئ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم