اقتباس
فأمر الحج ومناسكه ومشاعره قائمة على التسليم المطلق، وعلى تربية وتنمية ذلك المعنى في ضمائر المؤمنين، ليتعلموا أن أمر ربهم لا راد له، بل لا ينبغي لهم مجرد التفكير في رده، سواء أظهرت حكمة أمره ونهيه أم لم تظهر، وسواء اقتنعت...
تشتمل فريضة الحج إلى بيت الله الحرام العديد من الفوائد التربوية والإيمانية، وبسهولة ويسر يستطيع المطالع للنصوص الشرعية أن يصل إليها، من خلال التأمل في تلك النصوص، ومراجعة تعليقات علماء الأمة ودعاتها وسلفها الصالحين عليها، إلا أن الفوائد التربوية الجليلة المضمنة في هذه الشعيرة التي هي من أعظم شعائر هذا الدين، تدور في مجملها حول أمرين اثنين: الأول: إعلان صيحة التوحيد عالية مدوية تسد الآفاق، وتصم آذان الشرك وتدك صروحه وتزلزل كيانه؛ ذلك لما في الحج من نفي العبودية أو الملك المطلق لغير الله -تعالى-، بل وإعلان وثيقة عالمية يوقِّع عليها نائبون عن أجناس الأرض من أدناها إلى أدناها، عربيها وأعجميها، شرقيها وغربيها، أن الله -تعالى- واحد، وطريقه واحد، ونسكه واحد، فليس مشهد أشد على أعداء الملة من أن يروا تلك الملايين التي أتت البلد الحرام رجالاً وعلى كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا بعبودية الله وحده، وتفرده واستحقاقه -دون سواه- بأن يُتوجه إليه بالطاعة والعبادة، وأن يُفرد بالتحاكم إليه والإذعان لأمره ونهيه.
فرغم كيد الكائدين، وتخطيط المتآمرين، واستماتتهم لقتل أي نزعة للإيمان والتوجه إلى الخالق -جل وعلا- في قلوب الناس، إلا أن هذا المشهد يزعجهم ويقض مضاجعهم؛ حيث يهدم مخططاتهم، ويعيدهم من جديد للمربع الأول تخطيطًا وتآمرًا، وكما قال رب العزة سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)[الأنفال: 36].
فتوحيد العبادة والتحاكم إلى شريعة الله -تعالى- هما عماد هذا الدين القويم، بهما يقوم، وعلى دعائمهما يستند، فكما أنه -جلَّ شأنه- في السماء إله، يبسط الهيمنة الكاملة على جميع مخلوقاتها، ويدينون له بالطاعة المطلقة، والسيادة الكاملة، فلا يُرَدُّ أمره، ولا تُنتقض تكاليفه، ولا يتطرق إلى أفهام عباده السماويين احتمالية أن يشاء اللهُ أمرًا ويشاؤون هم أمرًا آخر، بل جميعهم طائعون وهم أذلة، يعلمون مكانهم، وقدر عزة ربهم، ومدى استحقاقه لولائهم واستماتتهم وتسابقهم في الإصغاء والإرضاء والتزلف، فكما هو كذلك فإنه أيضًا في الأرض إله، له من مقومات الألوهية ما يتنزه به عن كل نقص، وما يتصف به من جميع صفات الكمال والجمال والجلال، فهو في السماء إله وفي الأرض إله، فما باله يُعصى في الأرض ولا يعصى في السماء؟! ما باله يوحَّد في السماء ولا تشوب توحيده فيها شائبة، بينما يهتز توحيده في الأرض بفعل الشركيات وتحاكم العباد إلى أنظمة وضعية لا ترقى لأن تشكِّل -مجتمعةً- حكمة من حِكَم إحدى تشريعاته التي أخفاها على عباده أو أظهرها؟!
(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)، فهي سلطة واحدة، سلطة الملك التي يصدر عنها التشريع في الدنيا، ويصدر عنها الجزاء في الآخرة، ولا يصلح أمر الناس إلا حين تتوحد سلطة التشريع وسلطة الجزاء في الدنيا والآخرة على السواء، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الأمر الثاني: وهو التسليم الكامل والشامل لأمر الله -تعالى-؛ فالحاج قد يفعل في الحج مناسك لا يعلم الحكمة منها، ولا المقصد من ورائها، فهو مثلاً يطوف بحجر (الكعبة)، ويستلم حجرًا (الحجر الأسود)، ويسعى بين حجرين (الصفا والمروة)، ويرمي حجرًا كبيرًا بأحجار صغار (رمي الجمرات)، كل ذلك قد لا يدري الحاج الحكمة من ورائه، ولكنه يفعله تسليمًا لأمر الله -تعالى- الذي أمره بذلك، ولأمر رسوله الذي أمر بأخذ المناسك عنه -صلى الله عليه وسلم-.
فأمر الحج ومناسكه ومشاعره قائمة على التسليم المطلق، وعلى تربية وتنمية ذلك المعنى في ضمائر المؤمنين، ليتعلموا أن أمر ربهم لا راد له، بل لا ينبغي لهم مجرد التفكير في رده، سواء أظهرت حكمة أمره ونهيه أم لم تظهر، وسواء اقتنعت بها نفوسهم أم لم تقتنع: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)[النور: 51، 52]، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب: 36].
فأمر المؤمنين ليس إليهم، ولا وفق ما تدفعهم نزواتهم وشهواتهم، وإنما فوقهم إله يحكم، ورب يأمر وينهى، وله الحكمة البالغة في ذلك كله مهما خفيت على العباد، ومهما استترت فحواها، فله الخلق والأمر، (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[السجدة: 5، 6]، فليس لأحد من الخلق حق الاعتراض أو الاحتجاج على الأوامر والنواهي الإلهية، بل عليه سرعة الامتثال والتسليم لأمر الله -تعالى- حتى وإن خالف ذلك هواه: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 84]، إلا أن من حق العباد أن يسألوا عن الحكمة من الفعل أو الكف، ولكن بلا تعليق للانقياد على الفهم، فإن فهم الحكمة أو لم يفهمها فعليه الامتثال دون قيد أو شرط، وهذا هو خلق المؤمنين الصادقين، المعترفين بعلو الله -تعالى- على خلقه، وإحاطته بكل شيء علمًا.
هذان المعلمان هما ما تدور حولهما أغلب الفوائد التربوية والإيمانية المنبثقة من شعيرة الحج، وما كان من فوائد دون ذلك فهي راجعة إليهما في الغالب، ومن يتتبع ما في كل نسك من مناسك هذه الأيام المباركة يجد الكثير والكثير من المعاني الإيمانية والتربوية، التي ترفع المؤمنين على من دونهم من البشر، وتربي ضمائرهم على معاني العبودية والتوحيد، وترسخ في عقولهم معاني وحدة الأمة وسواسية الجميع أمام ربهم؛ غنيهم وفقيرهم، عزيزهم وذليلهم، هذه المعاني التي غفل عنها الكثيرون، وتغافل عنها الأكثرون، فساروا في الدنيا على غير الهدى، واستمرؤوا العبودية لغير الله -جل وعلا-، حتى فشت في الأمة الأمراض، وتوالت عليهم المحن والبلايا، وتحكم واستحكم فيهم من لا يستحق..
إن نظرة متعمقة في هاتيك الأنساك الطاهرة، والحِكَم الجليلة الخفية منها والظاهرة، والعمل حقيقةً على الاستفادة منها في واقع الحياة، لهي جديرة -شأنها شأن التأمل في كل الأوامر الإلهية والشعائر الإسلامية- أن تغيِّر من واقع الأمة نحو الأفضل، وأن تزيل الغشاوة عن الأعين العمشاء، والأنفس الهزيلة العجفاء؛ لتدرك الأمة مبعث قوتها الحقيقية، وتعرف حجمها الذي لا تزال يومًا بعد يوم تستصغره، وتشك في قدرته على مواجهة أعدائها المتربصين، ولكن عما قريب تنهض الأمة، وتنفض عنها غبار الذلة والصغار، لتقود العالم من جديد، وتقف على رؤوس الأشهاد، على بوابات المدائن يصرخ رجالها الفاتحون: وفوق كل حائط شعارنا.. هنا هنا هنا.. متراسنا هنا.. ولن يمر من هنا القراصنة.. وتضم مختاراتنا لهذا الأسبوع -أيها الخطباء الكرام- تأملات ونظرات في مناسك الحج؛ ووقفات تربوية نبتغي بها الوقوف على أهم ما تشتمل عليها تلك المناسك والشعائر من معانٍ إيمانية، تنهض بحياة الفرد وتسهم في تقدم المجتمع، وإن التأمل في عبادة رفيعة المقام، سامية الحال والمآل كالحج، يجد فوائد وعبرًا حري بها -على كثرتها وعمق أثرها- أن تكون مبثوثة في أسفار ومجلدات لا في خطب ومقالات، ولكنها مجرد إشارات إلى ما في هذه الشعيرة العظيمة من تربية على معاني العبودية والطاعة، وإرشاد العباد إلى ما يصلح دنياهم وأخراهم، والله نسأل أن يتقبل من الحجاج حجهم، وأن يرزقهم حسن الإفادة من شعائر الله -تعالى-، إنه أعظم مأمول وأكرم مسؤول.
التعليقات