علو الهمة في طاعة الله وخطورة الغفلة عنها - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

اقتباس

لقد لجأ كثير من الناس في هذا الزمان إلى الاحتماء من المهالك في الأبدان والأموال، وسلكوا كل سبيل ينجّي أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وغفل كثير منهم عن حماية الروح، ووقاية النفس من أسباب الخسران، فولج كثير منهم أبواب الغي ثم لا يُقصرون، وأتوا بغرائب الذنوب وعجائب الآثام في شتى شئون حياتهم؛ في أفراحهم وأحزانهم، وسائر أعمالهم وعلاقاتهم في الأعمال والبيوت وغيرها، وتأتيهم الموعظة من ربهم من كل مكان وكل حين (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]، عبر خطبة يسمعونها، أو حكمةٍ تُلقَى إليهم، أو عبرةٍ من حادث، أو موت قريب، أو صديق، ومع كِبَر عمر الإنسان يسمع كل فترة يسيرة يسمع...

 ينبغي للعبد العاقل أن يقف مع أيام عمره وقفة تأمل واعتبار، فيحاسب نفسه على ما مضى من عمره، ويتأمل في كيفية انقضائه، وسرعة مروره، فالأيام تمضي، والأعمار تنقضي، وكلّ إلى داعي الموت سيصغي راغمًا ويجيب.  

وقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تضييع نعم الله في غير طاعته، وحذر من الغفلة عن المسارعة في الخيرات، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" (صحيح البخاري 6412)،  ومن الغبن ألا يقدّر الإنسان ما في يده ولا يعرف قيمته على الحقيقة، وقد ضربت الغفلة على كثير من الخلق من هذين البابين، فقد ترى الإنسان في جانب الوقت إما أنه فارغ عاطل أو بلغ سن التقاعد يكاد الفراغ يقتله لا يجد ما يملأه به من عمل نافع، وآخر يعمل معظم يومه وليله يكد كدًّا عجيبًا، فالأول قد غُبِن في وقته والآخر غُبِن أيضًا، وكذا في جانب الصحة فقد ينعم الله على إنسان بالصحة والعافية والرجولة فيستغلها في معاصيه لا مراضيه فهو مغبون، والآخر لا يجد قوة ولا يستطيع سبيلاً فيشعر بالغبن والضعف النفسي والجسدي...   فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ!!" (سنن أبي داود 2865 وصححه الألباني).   وفي هذا الحديث حثّ على أن يعمل المرء في صحته وعافيته ولا يمهل ولا يهمل حتى إذا نزل به الموت فكر في الصالحات، فيقول: أعطوا فلانًا كذا و... وصدق ربنا إذ يحذر من هذه الغفلة المطبقة فيقول: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنفقون: 10- 11]، يفيق من الغفلة عند الموت ويتمنى التزود من الصالحات وهيهات ...

 

بعد أطبقت الغفلة سنين عددًا .. يجيء طالبًا العودة والأوبة ولا حرج على فضل الله، ولكن الموت ساعة مضروبة وآجال معدودة.. وكم من حسرات في بطون المقابر..   فيما نتنافس اليوم؟! المتأمل فيما حوله يجد التنافس على أشده بين الناس اليوم في جمع حطام الدنيا، من المآكل والمشارب والمناكح، وشدة التنافس على حيازة الممتلكات وأفخر السيارات، وأفضل الملابس، مع المشاحنات بينهم، والتفريط في حقوق الله تعالى.. منافسات لا تنتهي، كلها تدور حول الدنيا وما فيها، حتى يهجم الموت على الغافلين، نعوذ بالله من سوء الحال وسوء المآل.  

 

وانظر فيما كان يتنافس السلف الصالح، عن حنظلة الأسيدي -وكان من كُتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا.   قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات. (صحيح مسلم 2750).  

 

وليس العجب من رغبة حنظلة أن يظل على حالته عند سماع الذكر وفي مجالس النبوة، بل العجب من اتهام أبي بكر لنفسه، سبحان الله وهو من هو!! نسأل الله أن يأخذ بنواصينا إليه.   وهذا صحابي آخر قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ".(سنن الترمذي 3375 وصححه الألباني). فهذا الرجل مع كبر سنه وضعفه يحب أن يسارع إلى رضا ربه، فأين نحن من هؤلاء؟!   إن من أهم ما ينبغي على العبد أن يراجع نفسه فيه: الحرص على دينه، واستثمار عمره؛ فهو رأس ماله على الحقيقة، والانتباه لما فرطنا فيه..، فكم من صلاة ضيعناها! وكم من رحم قطعناها! وكم من ذنوب ارتكبناها، وكم هجرنا كتاب ربنا، تلاوةً وسماعًا وتدبرًا وحكمًا وتحكيمًا، وتعلُّمًا وتعليمًا، والنجاة في المسارعة في الخيرات، والبحث عن مراضي الله -سبحانه-، والثبات على الدين حتى الممات.   عِظَم الغبن في إضاعة العمر فيما لا يفيد: إن فلاح العبد في صلاح قلبه واستقامته وإقباله على ربه وأنسه به، وطاعته والحرص على نَيْل محبته، إلا أن العبد تعتريه آفات تبعده عن طريق الله -تبارك وتعالى-، فقد ينسى ويغفل أو يفرط ويذنب، ولا يخلو العبد بضعفه البشري من تقصير وذنب، وقد فتح الله ربنا –سبحانه- أبواب رحمته لعباده، ولم يقنّط عباده من رحمته، فهو "التواب الرحيم الذي مَن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من قريب، ومن ترك من أجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه أراد ما يريد، أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنّطهم من رحمته؛ إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو رحيم بهم، يبتليهم بالمصائب ليطهّرهم من المعايب" [عدة الصابرين لابن القيم (1/244)].  

 

- خطورة الفتور عن الطاعات: جاءت النصوص الشرعية تحث على المسارعة في الخيرات، قال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) [الحديد: 21]، وتحذر من الفتور عن الطاعات، قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]، وقال ابن مسعود: "مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ" (صحيح مسلم: 3027).   وحذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفتور عن الطاعة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدْ اهْتَدَى وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ" (مسند أحمد 6477 وحسنه الألباني).  

 

لقد لجأ كثير من الناس في هذا الزمان إلى الحمية والوقاية من المهالك في الأبدان والأموال، وسلكوا كل سبيل ينجّي أبدانهم وأموالهم وأولادهم، وغفل كثير منهم عن حمية الروح، ووقاية النفس من أسباب الخسران، فولج كثير منهم أبواب الغي ثم لا يُقصرون، وأتوا بغرائب الذنوب وعجائب الآثام في شتى شئون حياتهم؛ في أفراحهم وأحزانهم، وسائر أعمالهم وعلاقاتهم في الأعمال والبيوت وغيرها، وتأتيهم الموعظة من ربهم من كل مكان وكل حين (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]، عبر خطبة يسمعونها، أو حكمةٍ تُلقَى إليهم، أو عبرةٍ من حادث، أو موت قريب، أو صديق، ومع كِبَر عمر الإنسان يسمع كل فترة يسيرة يسمع عن موت فلان، وحادثة لفلان، حتى يضرب الموت بأطنابه في بيته، فيصيب الموت زوجه أو أخًا أو ابنًا له، حتى يشعر بفقد هذا القريب كأنه قد فَقَد بعضه، وسُلب شيئًا من جسده، ويبدأ في العظة والاعتبار، وينظر لنفسه ويا ليت هذا الأمر يدوم ويستمر؛ فلعله ينتفع بالموعظة ويصلح الله حاله!! ولكنها في الحقيقة أيام ويعود إلى سيرته الأولى.   - الطاعة نجاة ونور وبركة: هناك كثير من الأعمال الصالحة لا تكلفك شيئًا، فلا يلزمك لها طهارة أو تعب أو بذل جهد، بل تقوم بها وأنت تسير على قدميك، أو راكب سيارتك، أو مستلقٍ على ظهرك أو جالس تنتظر أحدًا، ولو أننا استطعنا بصدق أن نوظف ونفعّل الحكمة التي نعلقها في بيوتنا وأعمالنا وشوارعنا "اجعل أوقات الانتظار ذكراً واستغفارًا" أن نحول الأوقات الغافلة إلى أوقات حية نجي فيها الخير ونغرس فيها النافع، وهل جزء الإحسان إلا الإحسان!!  

 

ولو رجعنا إلى ما حثت عليه النصوص الشرعية من الذكر، مما يسمى بعمل اليوم والليلة لوجدنا أن الالتزام بذلك يجعل المسلم لا يكاد ينفك عن تسبيح وتحميد وتهليل واستغفار وتضرع ودعاء، ما دام مستيقظًا. إن كثرة ذكر لله تعالى تولّد لدى المسلم الحياءَ منه وحبه، وتنشّطه للسعي في مرضاته، كما تملأ قلبه بالطمأنينة والأمان والسعادة؛ لينعم بكل ذلك في أجواء الحياة المادية الصاخبة، وإن السعيد من اغتنم عمره في الصالحات، وتقرب فيها إلى مولاه بالطاعات.   ومن أجل تذكير المسلمين بأهمية المسارعة في الخيرات، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضّح ضرورة اغتنام الأعمار فيما يرضي الله، وفصّلنا بعض أسباب الفتور عن الطاعات، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.  

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
العنوان
أسباب وبواعث علو الهمة 2021/05/21 4390 486 25
أسباب وبواعث علو الهمة

إنَّ مِنْ أبلغِ بواعثِ علوِّ الهِمَّة في نفس المؤمن قِصَرَ الأملِ، وتذكُّرَ سرعة انقضاء الدنيا، فمتى علم العبد ذلك وأيقَنَه، توفَّرت همتُه على المعالي، واطَّرَح الصغائرَ، واستبَق الخيرات، وسارَع إلى بلوغ المكرمات...

المرفقات

أسباب وبواعث علو الهمة.doc

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life