اقتباس
وبعد هذه التطوافة حول شهر صفر وتشاؤم الجاهلين به، دعونا نقرر في وضوح أن الشؤم الحقيقي هو شؤم المعصية، يقول ابن رجب: "وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح، وإنما الزمان كله خلق الله -تعالى- وفيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله -تعالى- كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحين" يعني اللسان"...
دائمًا وأبدًا ما ننادي في الناس: اعتمدوا التأريخ الهجري في حياتكم فإنه إعلان لاستقلاليتكم عن غيركم من الأمم، ولا تعتمدوا التأريخ الميلادي فإنه إيذان بتبعيتكم لأمة ضالة وكونكم ذيلًا لها! وقد استجاب خلق كثير والحمد لله، لكن ممن استجابوا من أصابتهم لَوْثة الجاهلية؛ فإذا بهم ينسبون إلى الزمان نفسه الضر والنفع والإعطاء والمنع والإحياء والإماتة! فتراه إن أصابه ضر اتجه إلى الزمان فسبه لأنه في اعتقاده هو الفاعل لما أصابه! والحق أنه الله وحده هو الفعال والضار والنافع، وها هو رب العزة ويعاتبنا قائلًا: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" (متفق عليه)، وفي رواية في الصحيحين أيضًا: "لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر؛ فإن الله هو الدهر".
ومن جملة نسبة الأقدار إلى محلها من الزمان: التشاؤم بشهر عربي كريم كغيره من شهور العام الهجري هو شهر صفر، فيتطيرون بقدومه ويتوقعون أن يقع لهم فيه المكروه والسوء والضرر، وإذا حدث لأحدهم فيه ما يكره اعتقد أنه حدث بشؤم ذلك الشهر! هذا مع أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك وعدَّه من الشرك بالله -والعياذ بالله-، فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، ثلاثًا" (أبو داود)، "وإنما جعل ذلك شركًا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعًا أو يدفع ضرًا فكأنهم أشركوه مع الله -تعالى-" (فتح الباري).
ويكون الجرم أشد إذا ما انقطع عن حاجته وتركها بسبب تذكُّره أنه في شهر صفر تشاؤمًا منه، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ردته الطيرة من حاجة، فقد أشرك"، قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: "أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك" (أحمد)، وذلك لاعتقاده أن لله شريكًا في تقدير الخير والشر (التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني).
بل لقد تبرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممن تشاءم من شيء كهذا، فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من تطير أو تطير له" (البزار)؛ والسبب أن ذلك من فعل أهل الجاهلية.
وإنا لنخشى على من يتشاءم بشهر صفر أو بغيره فوقع في الشرك أن يدخله الله النار -عياذًا بالله-؛ فقد روى جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار" (مسلم).
*** فقد علمنا الآن أن التشاؤم من شهر صفر كان من عادات الجاهلية، وأن من فعل فعلهم من المسلمين فقد تشبه بهم، ويُخشى عليه من الشرك، ومن العلماء من قال: ليس المراد بصفر شهر صفر، بل المراد أشياء أخرى، فتحت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر" (متفق عليه)، يقول الشراح: "قوله: (ولا صفر) بفتحتين، كانت العرب تزعم أنه حية في البطن واللدغ الذي يجده الإنسان عند الجوع من عضه، وقيل: هو الشهر المعروف كانوا يتشاءمون بدخوله ويزعمون أن فيه يكثر الدواهي والفتن، وقيل: أراد به النسيء فإن أهل الجاهلية يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ويجعلون المحرم صفرًا ويجعلون صفرًا من أشهر الحرم... فأبطل كل هذه المزعومات ونفاها الشارع" (شرح سنن ابن ماجه لمحمد عبد الغني المجددي).
*** هذا، ولعل سائلًا يسأل: ولما سمي هذا الشهر بصفر؟ ونقول: لقد تعددت الاجتهادات في ذلك، فقيل: أن الوقت الذي وضعت فيه أسماء الشهور كان في فصل الخريف وأوراق الأشجار صفراء ذابلة، فسُمّي صفرًا، وقيل: سُمي بذلك لأن الحرم ومكة تخلوان فيه من الحجيج بعد انقضاء موسم الحج فيصيران صِفرًا أي خاليين، وقيل: لأن ديار العرب كانت تَصْفُر أي تخلو من أهلها في هذا الشهر بسبب خروجهم للقتال بعد انقضاء الأشهر الحرم الثلاثة المتواليات...
وبعد هذه التطوافة حول شهر صفر وتشاؤم الجاهلين به، دعونا نقرر في وضوح أن الشؤم الحقيقي هو شؤم المعصية، يقول ابن رجب: "وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح، وإنما الزمان كله خلق الله -تعالى- وفيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله -تعالى- كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحين" يعني اللسان" (لطائف المعارف).
ويؤيد ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما نزل المكان الذي عُذِبت فيه ثمود قال: "لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم" (متفق عليه)، "لأن من دخل عليهم ولم يبك اعتبارًا بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال ودل على قساوة قلبه، فلا يأمن أن يجرّه ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه مثل ما أصابهم" (شرح القسطلاني لصحيح البخاري).
وفي لفظ للبخاري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لما نزل الحجر في غزوة تبوك، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها"، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، "فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء"، ويروى عن سبرة بن معبد، وأبي الشموس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإلقاء الطعام، فلكأن شؤم معصيتهم قد حلَّ بأرضهم ومائهم، بل وأيضًا بهوائهم؛ ففي البخاري أيضًا يقول الراوي: "ثم تقنع بردائه وهو على الرحل"، فكأن -صلى الله عليه وسلم- يتقي بردائه شؤم المعصية الذي قد حلَّ بهوائهم.
*** وقل الآن للمتشائمين: إن الضار والنافع هو الله وحده لا شريك له، ولا أحد ولا شيء سواه يملك الضر ولا النفع، قال -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107]، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" (الترمذي).
وقل لهم: إن أقدار العباد كلها من عمر ورزق وأحداث وأحوال وخير وشر... مكتوبة قبل خلق الأرض والسماء، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" (مسلم)، وعن جابر قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: "لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قال: ففيم العمل؟... فقال: "اعملوا فكل ميسر" (مسلم)، فيا أيها المتشائم: قد كُتبت -والله- أقدارك فلن يغني عنك تشاؤم، ولن يدفع عنك ضرًا مقدرًا، كما لن يمنع عنك شيئًا من رزقك.
والكلمة الأخيرة لنا: "تفاءلوا"، وتوقعوا الخير ممن لم يأتكم منه إلا الخير -سبحانه وتعالى-؛ ممن خلقكم بعد أن لم تكونوا، ثم جعلكم من المسلمين الموحدين بلا سابق يد منكم، ثم رزقكم وآواكم وحفظكم وحماكم... وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا طيرة، وخيرها الفأل" قال: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" (متفق عليه).
*** واعترافًا منا بخطورة الأمر وانتشاره، وبأننا لم نوفه حقه بهذه الكلمات القلائل، فقد أتينا ها هنا ببعض خطب لعلمائنا الأفاضل، والتي تشمل الأمر من جميع جوانبه، وعسى أن يجعل الله -تعالى- فيها الكفاية والهداية، وقد جاءت على الصورة التالية:
التعليقات