اقتباس
وتعالوا الآن ننهي حديثنا بما بدأناه به فنقول: من لا شعبان له لا رمضان له! من فاته شعبان فنخاف عليه أن يفوته رمضان! من قصَّر في شعبان فقد عقد العزم على التقصير في رمضان! ومن أحسن في شعبان فحري به أن يحسن في رمضان؛ فقد أعد العدة وأخذ الأهبة وهيء النفس والروح والجسد لاستقبال رمضان... ولست وحدي من أقول بذلك وأنادي به، بل جميع خطباء الأمة متفقون على ذلك يصيحون به وينبهون عليه ويهتفون بصحته وضرورته... وهذي بعض أصواتهم...
قالوا وصدقوا: "من لا شعبان له لا رمضان له"، وهذا شيء طبيعي ومنطقي؛ فإن الرياضيين -مثلًا- يعرفون ما يُعرف بالإحماء، فقبل أن يشرع أحدهم في تمارينه الحادة لا بد أولًا أن يهيئ جسده بشيء من التمارين الخفيفة المتدرجة، وهؤلاء متسابقو العدْو لمسافات طويلة يبدءون بالإحماء قبل دخول مضمار السباق بوقت كاف، والسبب: أنه لو بدأ بالمجهود الشاق فجاءة قبل أن يتجهز جسده لذلك فإن الجسد لن يستطيع أن يُخرج كل ما عنده، بل إن فاعل ذلك يعرِّض جسده للانهيار بذلك المجهود الشاق المفاجئ!
وكل قائد لسيارة قد تعود عند بدء قيادة سيارته في كل صباح أن يدير الماتور قليلًا قبل الانطلاق بالسيارة تهيئة له وتجهيزًا لتحمل العبء القادم، ثم هو يتدرج في الانطلاق بها فيبدأ بالسرعة الأولى ثم الثانية فالثالثة... وكذلك فشهر شعبان هو فترة إحماء وتهيئة وتجهيز وإعداد وتحضير لرمضان؛ فإن من الناس من لم يصم منذ رمضان الماضي! ومنهم من لم يقم الليل منذ رمضان الماضي! ومنهم من هجر المصحف منذ رمضان الماضي! طوال أحد عشر شهرًا وهم غارقون في الدنيا غافلون عن زاد الآخرة! ومن الناس من قام في هذه الأشهر وصام وتلا القرآن لكن كانت غفلاته أكثر من يقظاته! وقليل هم الذين قاموا وما غفلوا!
فلو دخل رمضان على هؤلاء فجاءة بلا مقدمات، فوجدوا أنفسهم مطالبين بصيام ثلاثين يوم ومندوبين إلى قيام ثلاثين ليلة وإلى ختم القرآن مرة أو مرات... لكان ذلك عليهم شاقًا وربما صادمًا؛ أن ينتقلوا -بشكل مباغت- مما تعودوا عليه أحد عشر شهرًا؛ من وجبات عديدة في النهار إلى وجبة واحدة، ومن نوم كثير في الليل إلى قيام أغلبه ومن سرح طويل على المعاش الدنيوي إلى عكوف جميل على كتاب الله -تعالى- وعلى الطاعات...
فيدخلون في رمضان وما استعدوا ولا تجهزوا ولا تهيئوا، فيمر بعضه حتى يعتادوه، ويمر بعضه الآخر حتى يستشعروا حلاوته! فمتى ينشطون لاستغلاله، ومتى يترقون في درجاته، ومتى يتنعمون بلذاته، ومتى تصيبهم تجلياته؟... إنهم سيخرجون من رمضان وما دخلوا فيه! ما اغتنموا نفحاته وفيوضاته وبركاته! لذا فقد اقتضت حكمة الله -عز وجل- ورحمته أن يجعل شعبان مقدمة وتمهيدًا ومدخلًا وتهيئة لرمضان، وهنا نفهم لما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الصيام في شعبان، فقد سأله أسامةُ بن زيد قائلًا: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (متفق عليه)، وقد لاحظت أم المؤمنين عائشة ما لاحظه أسامة، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان يصوم حتى نقول: قد صام ويفطر حتى نقول: قد أفطر، ولم أره صائمًا من شهر قط، أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا" (متفق عليه).
نعم إذن، لقد سنَّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التدرب على الصيام في شعبان كيلا يكون جديدًا ولا غريبًا علينا في رمضان، ومن شديد تأكيده عليه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر من فاته الصيام في شعبان أن يقضي بعضه بعد رمضان، فعن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئًا؟"؛ يعني شعبان، قال: لا، قال: فقال له: "إذا أفطرت رمضان، فصم يومًا أو يومين" -شعبة الذي شك فيه- قال: وأظنه قال: يومين (متفق عليه).
وفي الحديث الأول لفتة أخرى؛ وذلك حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شعبان: "وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين"، فكأنه -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يقول لنا: "إن العام الماضي بحسناته وسيئاته بحلوه ومره قد ولى وانقضى ورفع التقرير به إلى الجليل الكبير رب العالمين، فابدءوا صفحة جديدة لا تسطروا فيها إلا الخير"، ومن عادة المقصر إذا ما جاء وقت الحصاد وصدمه قلة زاده أن يندم على ما فرط ويعزم على التعويض وتدارك ما فاته.
بل ولشعبان علاقة أخرى برمضان؛ فهو آخر فرصة يستطيع من عليه دين من صيام رمضان الماضي أن يقضيه فيه؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان يكون علي الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان" (متفق عليه)، ولم يكن ذلك حال عائشة وحدها، ففي رواية أنها قالت: "إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يأتي شعبان"، فشعبان -إذن- فرصة للتخفف من ديون رمضان الماضي، والاستعداد لرمضان القادم.
ومن العلاقات التي تربط شعبان برمضان أن شعبان موسم مغفرة للذنوب، كي يدخل المرء إلى رمضان يستشعر الطهارة والبراءة والبداية الجديدة، فعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" (ابن ماجه، وصححه الألباني في الصحيحة: 1144).
وما زال شهر شعبان متعلقًا بشهر رمضان وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإنه لا يثبت قدوم رمضان إلا بثبوت انتهاء شعبان سواء عن طريق رؤية هلال رمضان أو بإتمام عدة شعبان، يروي عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (متفق عليه)؛ أي عدة شعبان.
وتعالوا الآن ننهي حديثنا بما بدأناه به فنقول: من لا شعبان له لا رمضان له! من فاته شعبان فنخاف عليه أن يفوته رمضان! من قصَّر في شعبان فقد عقد العزم على التقصير في رمضان! ومن أحسن في شعبان فحري به أن يحسن في رمضان؛ فقد أعد العدة وأخذ الأهبة وهيء النفس والروح والجسد لاستقبال رمضان... ولست وحدي من أقول بذلك وأنادي به، بل جميع خطباء الأمة متفقون على ذلك يصيحون به وينبهون عليه ويهتفون بصحته وضرورته... وهذي بعض أصواتهم قد جمعتها في خطبهم التالية:
التعليقات