عناصر الخطبة
1/شعبان نقطة السباق وموعد الانطلاق 2/بعض خصائص وفضائل شهر شعبان 3/تنبيهات مهمة متعلقة بشعبان.اقتباس
وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَيْضًا أَهَمِّيَّةُ طَهَارَةِ الْقُلُوبِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّغِينَةِ اسْتِعْدَادًا لِرَمَضَانَ، وَتَهْيِئَةً لِلسِّبَاقِ فِيهِ بِنَفْسٍ طَيِّبَةٍ مُنْشَرِحَةٍ، وَقَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ سِوَى الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، وَاللَّهُ رَاضٍ عَنْهُ، وَمَنْ حَوْلَهُ رَاضُونَ عَنْهُ أَيْضًا...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، مَنَّ عَلَيْنَا بِمَوَاسِمِ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ، وَأَبْقَى فِي أَعْمَارِنَا لِنُزَدَادَ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَاهِبُ الْفَضْلِ وَمَانِحُ الْأُعْطِيَاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَسُولُ الْهُدَى وَمَنْبَعُ الرَّحَمَاتِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ أُولِي الْفَضْلِ وَالْمَكْرُمَاتِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَوْقُوفُونَ فِي يَوْمٍ لَا يَجْزِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لُقْمَانَ: 33].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّهُ شَهْرُ النَّسَائِمِ، وَسَفِيرُ الْفَضَائِلِ، نُقْطَةُ السِّبَاقِ، وَمَوْعِدُ الِانْطِلَاقِ، فُرْصَةُ التَّرْوِيضِ، وَفَتْرَةُ التَّدْرِيبِ، مَنْ فَاتَهُ الزَّرْعُ فِيهِ لَمْ يَجْنِ ثِمَارَ مَا بَعْدَهُ، وَلَا حَصَادَ الَّذِي يَلِيهِ. فَهَنِيئًا لِمَنِ اغْتَنَمَهُ، وَمُبَارَكٌ عَلَيْهِ مَنِ اسْتَغَلَّهُ وَتَهَيَّأَ فِيهِ. إِنَّهُ شَعْبَانُ، رَسُولُنَا إِلَى رَمَضَانَ، وَبَوَّابَةُ الْعُبُورِ إِلَيْهِ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْمُشَارَكَةُ فِي سِبَاقِ رَمَضَانِ الْإِيمَانِيِّ مَا لَمْ يُجْرِ عَلَى نَفْسِهِ صِيَانَةً قِبْلِيَّةً، وَدُرْبَةً شَعْبَانِيَّةً يَتَفَقَّدُهَا فِيهِ وَيُهَيِّؤُهَا إِلَيْهِ. (أَلَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ).
يَقُولُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إِنَّ صِيَامَ شَعْبَانَ كَالتَّمْرِينِ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى مَشَقَّةٍ وَكُلْفَةٍ، بَلْ قَدْ تَمَرَّنَ عَلَى الصِّيَامِ وَاعْتَادَهُ، وَوَجَدَ بِصِيَامِ شَعْبَانَ قَبْلَهُ حَلَاوَةَ الصِّيَامَ وَلَذَّتَهُ، فَيَدْخُلُ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَلَمَّا كَانَ شَعْبَانُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِرَمَضَانَ شُرِعَ فِيهِ مَا يُشْرَعُ فِي رَمَضَانَ؛ مِنَ الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِيَحْصُلَ التَّأَهُّبُ لِتَلَقِّي رَمَضَانَ، وَتَرْتَاضَ النُّفُوسُ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ" انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عِبَادَ اللَّهِ: الشُّهُورُ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا شَبْعَانُ؛ وَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ حِينَ تَسْمِيَتِهَا لِلشُّهُورِ وَافَقَ شَعْبَانُ عِنْدَهَا وَقْتَ تَشَعُّبِهِمْ فِي الْأَرْضِ، بَحْثًا عَنِ الْمَاءِ.
وَشَعْبَانُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- شَهْرٌ يَغْفُلُ الْكَثِيرُ عَنْهُ، وَقَلِيلٌ مَنْ يَقْدُرُ لَهُ قَدْرَهُ، وَالسَّبَبُ فِي غَفْلَةِ النَّاسِ عَنِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ هُوَ وُقُوعُهُ بَيْنَ شَهْرَيْنِ؛ أَوَّلُهُمَا رَجَبٌ، وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ حَيْثُ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَظِّمُهُ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَثَانِيهِمَا رَمَضَانُ، وَهُوَ أَكْثَرُ الْأَشْهَرِ فَضِيلَةً، وَأَعْظَمُهَا قَدْرًا؛ مِمَّا جَعَلَ أَنْظَارَ النَّاسِ تَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ جَاءَ شَعْبَانُ حَامِلًا مَعَهُ بَعْضَ الْفَضَائِلِ الْمَخْصُوصَةِ، وَبِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ مَنْصُوصَةٌ؛ خَصَائِصُ رُبَّمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فِي بَعْضِهَا، مِنْهَا:
أَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ؛ وَدَلِيلُ رَفْعِهَا قَوْلُهُ -سُبْحَانَهُ-: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فَاطِرٍ: 10]، وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ فِي شَعْبَانَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ النَّاسُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"(الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ النَّسَائِيِّ: 2356).
وَحِرْصُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى كَثْرَةِ إِيقَاعِ الصِّيَامِ فِي شَعْبَانَ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِهِ، وَرَغْبَةٌ فِي رَفْعِ عَمَلِهِ وَهُوَ صَائِمٌ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ أَعْلَمُ الْعِبَادِ بِمَرْضَاةِ رَبِّهِ، وَأَدْرَاهُمْ بِمَحَابِّهِ لِذَلِكَ هُوَ دَلِيلُهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ، وَمُرْشِدُهُمْ إِلَيْهِ. وَحَقًّا لَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا؛ كَمَا رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ أَلْصَقُ النَّاسِ بِهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ؛ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- حَيْثُ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَعَلَيْنَا -نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ- أَنْ نَتَأَسَّى بِنَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَكُونَ حَيْثُ كَانَ، وَنَغِيبَ حَيْثُ لَا يَكُونُ -بِأَبِي هُوَ أُمِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنُكْثِرَ الصَّوْمَ فِي شَعْبَانَ لِلَّهِ -تَعَالَى- تَقَرُّبًا، وَبِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- تَأَسِّيًا. وَكَثْرَةُ صَوْمِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي شَعْبَانَ يُعْطِينَا فَائِدَتَيْنِ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: إِدْرَاكًا مِنْهُ لِحُسْنِ الْخَوَاتِيمِ، وَالَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ صَلَاحِ الْعَبْدِ، وَدَلِيلُ قَبُولِ اللَّهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ. وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ خَصَّصَ أَوْقَاتًا وَأَزْمَانًا تُرْفَعُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ إِلَيْهِ؛ فَأَعْمَالُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ تُرْفَعُ سَاعَتَيِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ، وَالرَّفْعُ الْأُسْبُوعِيُّ يَكُونُ يَوْمَيِ الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَالرَّفْعُ السَّنَوِيُّ يَكُونُ فِي شَعْبَانَ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّهُ شَهَرَ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى".
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: يُبَيِّنُ لَنَا مَدَى أَهَمِّيَّةِ طَاعَةِ الصِّيَامِ وَفَضْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَمَنْزِلَتِهِ وَقَدْرِهِ فِي الْمِيزَانِ. وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ بِهَذَا الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ كَانَ أَدْعَى لِقَبُولِ صَاحِبِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَرْجَى لِمُكَافَأَتِهِ، وَحُسْنِ جَزَائِهِ؛ مِمَّا حَمَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَحْرِصَ عَلَى كَثْرَةِ الصِّيَامِ فِيهِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: "فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ".
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "صِيَامُ شَعْبَانَ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَأَفْضَلُ التَّطَوُّعِ مَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، وَتَكُونُ مَنْزِلَتُهُ مِنَ الصِّيَامِ بِمَنْزِلَةِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَهِيَ تَكْمِلَةٌ لِنَقْصِ الْفَرَائِضِ، وَكَذَلِكَ صِيَامُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ وَبَعْدَهُ، فَكَمَا أَنَّ السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ أَفْضَلُ مِنَ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ بِالصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ صِيَامُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ وَبَعْدَهُ أَفْضَلَ مِنْ صِيَامِ مَا بَعُدَ عَنْهُ".
عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنْ خَصَائِصِ شَعْبَانَ: أَنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْهُ لَهَا فَضِيلَةٌ خَاصَّةٌ، وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَطَّلِعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ"(الْأَلْبَانِيُّ، السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ (1144)، وَقَالَ: صَحِيحٌ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ).
وَإِذَا تَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ سَنَجِدُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ رَأْيَانِ؛ تَصْحِيحٌ وَتَضْعِيفٌ؛ فَمَنْ ضَعَّفَهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ وَجَعَلَ الْقَوْلَ بِفَضْلِهِ وَتَخْصِيصِهِ بِطَاعَةٍ بِدْعَةً، وَمَنْ رَأَى تَصْحِيحَهُ فَقَدِ اسْتَحَبَّ الْعَمَلَ بِمَا فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: "لَيْلَةُ نِصْفِ شَعْبَانَ رُوِيَ فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا مُفَضَّلَةٌ، وَمِنَ السَّلَفِ مَنْ خَصَّهَا بِالصَّلَاةِ فِيهَا، وَصَوْمُ شَعْبَانَ جَاءَتْ فِيهِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ..."(فَيْضِ الْقَدِيرِ: (2/316)، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ فِي أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةِ الْمَرَاتِبِ: (ص: 84).
وَانْطِلَاقًا مِنَ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ سَنَقِفُ عَلَى بَعْضِ فَوَائِدِهِ وَلَطَائِفِهِ؛ مِنْهَا:
إِثْبَاتُ اطِّلَاعِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِحَيَاتِهِمْ وَإِدْرَاكِهِ لِسَرَائِرِهِمْ وَمَا تُخْفِيهِ قُلُوبُهُمْ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا لَهُ -تَعَالَى-؛ فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَمَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ إِيمَانٍ وَخَوْفٍ وَإِخْلَاصٍ وَمَحَبَّةٍ، كَمَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنْ شِرْكٍ وَحَسَدٍ وَضَغِينَةٍ وَرِيَاءٍ.
وَهَذِهِ الْإِحَاطَةُ الشَّامِلَةُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- عَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: (وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[الْأَنْفَالِ: 47]؛ وَفِي ذَلِكَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ مِمَّا حَذَّرَ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-؛ كَالشِّرْكِ وَالضَّغِينَةِ حِفَاظًا عَلَى نَقَاءِ هَذِهِ الْمُضْغَةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْخَلَّاقُ فِيكَ وَصَوْنًا لِطَهَارَتِهَا؛ فَلَا تَحْوِي إِلَّا إِيمَانًا وَإِخْلَاصًا وَحُبًّا وَتَعْظِيمًا؛ فَتَفُوحُ مِنْهَا رَائِحَةُ جَمِيلِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ السُّلُوكِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ يَا عِبَادَ اللَّهِ: مَغْفِرَةُ اللَّهِ الشَّامِلَةُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِكُلِّ مَنْ يَحْمِلُ اسْمَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ سِوَى صِنْفَيْنِ وَحَدَّدَ وَصْفَيْهِمَا؛ وَصْفَ الشِّرْكِ أَوْ وَصْفَ الْمُشَاحِنِ؛ فَأَمَّا اسْتِثْنَاؤُهُ الْمُشْرِكَ فَلِأَنَّهُ صَرَفَ لِغَيْرِ اللَّهِ شَيْئًا لَا يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَّا لَهُ، وَاللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ حَكَمَ عَلَى فَاعِلِ الشِّرْكِ بِالْكُفْرِ، وَأَوْجَبَ لَهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ؛ فَكَيْفَ يُغْفَرُ لَهُ دُونَ تَوْبَةٍ!. وَأَمَّا اسْتِثْنَاؤُهُ لِلْمُشَاحِنِ الْمُخَاصِمِ فَلِأَنَّهُ يَقْطَعُ الرَّحِمَ وَيُفْسِدُ ذَاتَ الْبَيْنِ وَيُوغِلُ الْقُلُوبَ.
وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِثْنَاءِ صَاحِبِ الشِّرْكِ وَصَاحِبِ الشَّحْنَاءِ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ هِيَ فِي الْعَلَاقَةِ بَيْنَهُمَا، وَالَّتِي تَكْمُنُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْسِدُ الدِّينَ وَالْأَخْلَاقَ؛ فَالشِّرْكُ يَجْتَثُّ الْإِيمَانَ، بَيْنَمَا الشَّحْنَاءُ يُهْلِكُهُ وَيُفَتِّتُهُ.
قُلْتُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوا، فَيَا فَوْزَ الْمُسْتَغْفِرِينَ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَيْضًا أَهَمِّيَّةُ طَهَارَةِ الْقُلُوبِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّغِينَةِ اسْتِعْدَادًا لِرَمَضَانَ، وَتَهْيِئَةً لِلسِّبَاقِ فِيهِ بِنَفْسٍ طَيِّبَةٍ مُنْشَرِحَةٍ، وَقَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ سِوَى الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، وَاللَّهُ رَاضٍ عَنْهُ، وَمَنْ حَوْلَهُ رَاضُونَ عَنْهُ أَيْضًا.
عِبَادَ اللَّهِ: وَيَحْسُنُ أَنْ نُنَبِّهَ فِيَ شَعْبَانَ عَلَى أُمُورٍ مِنْهَا:
النَّهْيُ عَنْ تَخْصِيصِ النِّصْفِ مِنْهُ بِصِيَامٍ؛ حَيْثُ لَمْ يَرِدْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ؛ إِنَّمَا وَرَدَ عَنْ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْإِكْثَارُ مِنَ الصِّيَامِ فِيهِ عُمُومًا دُونَ تَخْصِيصِ نِصْفِهِ أَوْ يَوْمٍ مِنْهُ بِصِيَامٍ.
كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ لِمَنْ لَمْ يَصُمْ مِنْ أَوَّلِ شَعْبَانَ أَنْ يُحْدِثَ صَوْمًا فِي نِصْفِهِ الثَّانِي إِلَّا لِمَنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ مِنْ صِيَامٍ؛ كَمَنْ يَصُومُ الْإِثْنَيْنَ وَالْخَمِيسَ.
كَذَلِكَ عَدَمُ مَشْرُوعِيَّةِ الِاحْتِفَالِ بِلَيْلَةِ النِّصْفِ وَإِحْيَائِهَا عَلَى عِبَادَاتٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ قَصَائِدَ وَمَدَائِحَ، أَوْ بِإِطْعَامِ الطَّعَامِ أَوْ غَيْرِهَا، وَاعْتِقَادُ مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ.
وَمِمَّا يَجْدُرُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صِيَامٌ مِنْ رَمَضَانَ الْفَائِتِ أَنْ يَتَدَارَكَ قَضَاءَهُ فِي شَعْبَانَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ هَذَا وَلَمْ يَقْضِ مَا فَاتَهُ مِنْ رَمَضَانَ الْفَائِتِ خِلَالَ الْعَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ (إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ)، عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
عِبَادَ اللَّهِ: قَدْ رَوَى الْإِمَامُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا فَلَا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا".
فَاسْتَعِدُّوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- لِلِقَاءِ رَبِّكُمْ، وَدُخُولِ شَهْرِكُمْ رَمَضَانَ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّقْوَى، وَطَهِّرُوهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّحْنَاءِ، وَتَهَيَّئُوا لَهُ بِتَدْرِيبِ أَنْفُسِكُمْ فِي شَعْبَانَ وَتَرْوِيضِهَا حَتَّى تَكُونَ أَقْدَرَ عَلَىَ الطَّاعَةِ، وَأَكْثَرَ نَشَاطًا، وَأَطْوَعَ لِلَّهِ -تَعَالَى-.
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، الصَّادِقِ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ؛ مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ بَلِّغْنَا رَمَضَانَ وَنَحْنُ بِصِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ وَأَمْنٍ وَسَتْرٍ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبِّ الْمَسَاكِينِ.
اللَّهُمَّ خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ وَاعْصِمْنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالْجُنُونِ وَسَيِّئِ الْأَسْقَامِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَاجْعَلْ وِلَايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ وَاتَّبَعَ رِضَاكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ وَكِتَابَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ وَعِبَادَكَ الصَّالِحِينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم