اقتباس
لقد جهلوا أن الابتلاء كمبضع الجراح؛ يقطع به جسد المريض ويدميه ليستخرج منه ورمًا خبيثًا لو لم يُستأصَل لأهلكه؛ فكذلك البلاء؛ قد يدمي قلبًا ليحي به ألف قلب، وقد يستأصل عضوًا ليفدي به سائر الأعضاء، وقد يأتي في أبشع صورة في الظاهر ولكنه يطوي الكثير والعظيم من الرحمات والبركات في داخله...
"إنما تتزلزل الأرض لأسباب جيولوجية بحتة، كانزلاق الصفائح الأرضية أو ارتطام بعضها ببعض، ولا شيء غير ذلك، وإنما تثور البراكين للحرارة المحبوسة في باطن الأرض التي تبحث عن متنفس، فتخرج من المنطقة الضعيفة في القشرة الأرضية، ولا شيء غير ذلك... وإنما تهطل الأمطار إذا أثقلت السحب بما تحمل من ماء، ولا شيء غير ذلك"!...
هكذا يقول الطبيعيون الماديون الذي ينسبون كل ما يحدث في هذا الكون إلى الماديات والأسباب، ويعمون أن يروا فعل الخالق -سبحانه وتعالى- الذي خلق الأسباب والمسببات، بل خلق الكون كله ما نعلم منه وما لا نعلم.
لكن أهل الإيمان والعلم ينسبون كل الأفعال إلى الله -عز وجل-، ويعلمون أنه -تعالى- "الفعال لما يريد"، ويوقنون أنه "ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن"، كما يوقنون أنه -تعالى- له في كل قضاء حكمة بل حِكم كثيرة جليلة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
وقد انطلقت ألسنة جاهلة ترثي لما حدث من زلازل في سوريا وتركيا، وتقول: وأين الحكمة في هدم البيوت على الآمنين، وقتل الأبرياء، وترويع الأطفال والنساء، وتشريد الآلاف من الآدميين، وربما قال بعضهم أين الإله من هذا!!...
وما هؤلاء إلا قوم ضاقت عقولهم عن فهم حكمة الله -تعالى- في أفعاله، وفرغت قلوبهم من الإيمان واليقين في رحمة أرحم الراحمين -سبحانه-، وخلت صدورهم من كل علم شرعي صحيح، فهم في ريبهم يترددون.
لقد جهلوا أن الابتلاء كمبضع الجراح؛ يقطع به جسد المريض ويدميه ليستخرج منه ورمًا خبيثًا لو لم يُستأصَل لأهلكه... فكذلك البلاء؛ قد يدمي قلبًا ليحي به ألف قلب، وقد يستأصل عضوًا ليفدي به سائر الأعضاء، وقد يأتي في أبشع صورة في الظاهر ولكنه يطوي الكثير والعظيم من الرحمات والبركات في داخله...
ومن الآيات والعظات والحِكم التي نلمسها في هذه الزلازل وفي غيره من الكوارث الطبيعية: تخويف المغرورين بسلطانهم أو أموالهم أو أولادهم أو قوتهم وكذا الغافلين واللاهين، ألم يقل الله -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)[الإسراء: 59]؛ فكانت هذه الزلازل بمثابة النذر لردعهم وتعريفهم حقيقتهم وضعفهم، وأن الله المالك القوي ذو الجبروت وصاحب السلطان والقهر، لا راد لأمره ولا يحول دون عذابه شيء.
ومنها: التذكير بيوم القيامة: وإعطاء النموذج المصغر لما سيحدث فيه من أهوال عظام: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا)[الزلزلة: 1-3]، (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ)[التكوير: 1-6].
وإن من علامات الساعة: كثرة الزلازل، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل"(رواه البخاري).
مثل لنفسك أيها المغرور *** يوم القامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت *** حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت *** وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا البحار تفجرت من خوفها *** ورأيتها مثل الجحيم تفور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها *** فرأيتها مثل السحاب تسير
ومنها: اصطفاء الشهداء: فقد قال الجليل -سبحانه وتعالى-: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)[آل عمران: 140]، "يعني: وليكرم قومًا منكم بالشهادة ممن أراد أن يكرمهم بها"(تفسير الخازن)، ومن سقط عليه بناء فمات فهو شهيد؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم.."(رواه البخاري).
مع اليقين أنه ما مات من مات إلا في أجله المكتوب المحدود الذي كتبه الله -تعالى- وقضاه قبل أن يخلق الأرض والسماء بخمسين ألف سنة، يقول -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)[آل عمران: 145]، وفي صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة".
فإنا نحتسب من مات هدمًا من المؤمنين الطائعين عند الله شهداء إن شاء الله، نحسبهم ولا نزكيهم، نظنهم ولا نقطع لهم بشيء؛ فالله أعلم بهم.
ومنها: تفاهة الدنيا وحقارتها: فهي دنيا زائلة؛ في أي لحظة من ليل أو نهار تأذن بالفناء فتفنى وتصير حطامًا وأثرًا بعد عين... وهي دنيا غدارة؛ تُنعم وتُعطي، لكنها في ومضة عين تتبخر وتتبدد ويتبدل حالها، فنرى وجهها الكالح الغدار؛ فقد نام القوم في بيوتهم آمنين وفي النعم متقلبين، فما أيقظهم في الليل البهيم إلا حجارة تتهاوى فوق رؤوسهم، وسط صرخات وآهات وتشريد وضياع!! (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 64].
ومنها: التنبيه إلى نعم الله -تعالى- ووجوب شكرها: يقول ابن القيم: "تأمل خلق الأرض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة؛ لتكون مهادًا ومستقرًا للحيوان والنبات والأمتعة، ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحاتهم والنوم لهدوهم والتمكن من أعمالهم، ولو كان رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارًا ولا هدوا ولا ثبت لهم عليها بناء ولا أمكنهم عليها صناعة ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة، وكيف كانوا يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحته، واعتبر ذلك بما يصيبهم من الزلازل على قلة مكثها كيف تصيرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها"(مفتاح دار السعادة)، فجميعنا يمشي على هذه الأرض الذلول ليقضي مصالحه، لكن كم منا تنبه إلى أن سكونها وهدوءها نعمة من النعم إلا لما تزلزلت من تحتنا!
ومنها: إيقاظ الغافلين: فمن الناس من هو سادر في غفلته، همه دنياه، يجمع ويكدس ويكنز، خبير خريت في أمور الدنيا، وهو في أمر الآخرة يكبو ويزحف: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[الروم: 7]، فينبههم الله -تعالى- بالظواهر الكونية ويشعرهم بقدرته -تعالى- على الفتك بهم إذا شاء: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)[الأنعام: 65]؛ فكان من رحمة الله -تعالى- أن يزلزل الأرض من تحت أرجلنا عسى أن تتزلزل معها القلوب فتفيق، فتعود إليها الحياة.
وقد تنبه لذلك خطباؤنا، فانطلقوا يتلمسون الآيات والعظات مما حدث، فتعالوا ننظر أي عِبرٍ جمعوا:
التعليقات