الزلزال المروع: وقفات وعبر

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2023-02-10 - 1444/07/19 2023-02-13 - 1444/07/22
عناصر الخطبة
1/مشاهد مروعة وصور مفجعة 2/آثار مدمرة للزلزال 3/الزلازل آية من آيات الله 4/ ليس كل بلاء عقوبة 5/الصبر عند المصائب 6/قتلى الزلازل من المؤمنين شهداء 7/من حقوق الأخوة الإيمانية 8/دعم مصابي الزلزال في تركيا وسوريا.

اقتباس

الأحداث الكونية كلها كالزلازل البراكين والعواصف وغيرها تقع بإرادة الله وتقديره فهو القدير، ولا تأثير للطبيعة وحدها في حدوثها دون تقدير الله، نعم هناك أسباب طبيعية لها، لكنها لا تقع إلا بتقدير مُسبّبها، وهو الله الواحد القهار.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أيها الإخوة: مشاهدُ مروعة وصورٌ مفجعة وآثارٌ مدمرة مؤلمة شاهدها العالم عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي للزلزال المدمر الذي وقع في تركيا وسوريا وامتد حتى أصاب فلسطين..

 

عمائر ضخمة سويت بالأرض فأمست ركامًا، وشقوق عميقة في المدن والبراري والطرق ابتلعت ما فوقها.. وبِنًى تحتية أُبيدت عن آخرها فأصبحت ركاماً، وأنفسٌ تحت الركام طمرت ما بين ميت وحبيس وجريح.

 

فما من أحد من الناس في أماكن الزلزال إلا أُصيب، فهم بين قتيل أو جريح أو مفقود، ومن نجى أمسى شريداً لا يلوي على شيء.. فقد المأوى وربما فقد الأسرة كاملة.. رحماك ربنا رحماك بإخواننا اجعل موتاهم من الشهداء، وأَعِد مفقودهم، واشفِ جريحهم وآوي مشردهم.

 

أيها الإخوة: إن هذا الزلزال المدمر يحمل في طياته منحاً ومحنا، فحري بالمؤمن أن يقف معه متأملاً معتبراً..

 

وأول ما يجب على المؤمن أن يعلمه أن الزلازل آية من آيات الله، يُقدّرها ويخلق أسبابها متى شاء وكيف شاء وأين شاء، ويرسلها تخويفاً للكافرين، وابتلاء للمؤمنين، وعتاباً للمقصرين، والمذنبين.

 

ثم اعلموا أن الأحداث الكونية كلها كالزلازل البراكين والعواصف وغيرها تقع بإرادة الله وتقديره فهو القدير، ولا تأثير للطبيعة وحدها في حدوثها دون تقدير الله، نعم هناك أسباب طبيعية لها، لكنها لا تقع إلا بتقدير مُسبّبها، وهو الله الواحد القهار.

 

وعلينا أن نعلم علم اليقين أنه ليس كل بلاء عقوبة؛ فقد ابتلي الأنبياء والرسل وأصحابهم وهم خيار عباد الله.. وكتابُ الله وسُنةُ رسوله والتاريخُ خير شاهد على نزول الفواجع فيهم من باب الابتلاء.. ولم تزل الفتن تتابع على أمة الإسلام؛ ليبلوها الله وينضجها وينقّيها أولاً بأول.

 

وفي المقابل أرشد الله -تعالى- عباده للصبر، وبشَّرهم بعواقبه الحميدة؛ فقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155 - 157].

 

فمن وفَّقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط، قولاً وفعلاً واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه؛ لأنها صارت طريقاً لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي: بشِّرهم بأنهم يُوفْون أجرهم بغير حساب.. فالصابرون، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة.

 

أيها الإخوة: ومن أعظم العطايا التي يمنحها الله -تعالى- لعباده بِسَبَبِ الزلزال أنه يَصْطَفِي من عباده المؤمنين شُّهَداء؛ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).

 

والمعنى: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ أي الذين لهم أجر الشهيد وثوابه خمسة أنواع من الموتى، المَطْعُونُ الذي يموت بسبب وباء عام، وَالمَبْطُونُ من مات بسبب مرض أصابه في بطنه، وَصَاحِبُ الهَدْمِ أي الذي يموت تحت الهدم، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي الذي يُقتل في القتال مع الكفار بقصد إعلاء كلمة الله -عز وجل-، وهذا الوعد من رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يُهوّن على المصابين مصابهم ويسلّيهم، فمن أيقن أن ما عند الله -تعالى- خير لأهل البلاء من حطام الدنيا بأكملها ازداد قربًا من الله وتوفيقًا.

 

أيها الإخوة: ومما ينبغي لنا كذلك: شكرُ اللهِ -تعالى- على ثَبات الأرضِ التي نعيش عليها وقرارها؛ فقد قال: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أََإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[النمل:61]. قال الشيخ السعدي: "أي: يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى والحرث، والبناء، والذهاب، والإياب. (وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا) أي: جعل في خلال الأرض أنهاراً ينتفع بها العباد في زروعهم وأشجارهم، وشربهم وشرب مواشيهم".

 

وقالَ -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)[غافر:64]؛ قال ابن كثير أَيْ: "قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً، لَا تَمِيدُ وَلَا تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَرْجُفُ بِهِمْ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا طَابَ عَلَيْهَا الْعَيْشُ وَالْحَيَاةُ، بَلْ جَعَلَهَا مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ مِهَادًا بِسَاطًا ثَابِتَةً لَا تَتَزَلْزَلُ وَلَا تَتَحَرَّكُ".

 

 اللهم اجعل ما أصاب إخواننا المسلمين المتضررين كفارة لهم، وأخلفهم في عقبهم في الصالحين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة: ومن أعظم حقوق المسلم على المسلم إحساسه بمصيبة إخوانه ورحمتهم؛ فالمؤمنون إخوة؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]. قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "هذا عقد، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخٌ للمؤمنين، أُخوةٌ توجب أن يحبّ له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم.

 

 ولهذا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا"، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ

 عَنْهُ-).

 

وقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"؛ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ". (رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).

 

ولقد أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، وبما يحصل به التآلف والتوادّ والتواصل بينهم، كل هذا تأييدٌ لحقوق بعضهم على بعض.. ثم قال الشيخ عن ختم الآية: ثم أمر الله بالتقوى عمومًا، ورتَّب على القيام بالتقوى وبحقوق المؤمنين الرحمة، فقال: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وإذا حصلت الرحمة؛ حصل خير الدنيا والآخرة. ودل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة".اهـ.

 

وقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(رواه مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-). 

 

أيها الإخوة: وانطلاقاً من هذا التوجيه الرباني والتأكيد النبوي بالتواد والتراحم بين المسلمين يجب على كل مسلم تجاه إخوانه المنكوبين في هذه الأزمة الدعاء لضحاياهم بالمغفرة والرحمة، وللمصابين بأبدانهم ونفسياتهم بالشفاء العاجل، ويشرع له أن يبادر بالبذل لإخوانه المصابين كل حسب قدرته.

 

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ"، قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ: "كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا"(رواه النسائي وحسنه الألباني).

 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ"(رواه مسلم)، ومعنى "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ": ذكروا فيه وجهين؛ أحدهما معناه أنه يبارك الله فيه ويدفع عنه المضرات فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مُدرَك بالحس والعادة، والثاني أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المرتب عليه جبر لنقصه وزيادته إلى أضعاف كثيرة.

 

أيها الإخوة: وجَّه خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين -جزاهم الله خيراً- عموم المواطنين والمقيمين في هذه البلاد للصدقة للمنكوبين وحثهم عليها، وسهّل للباذلين سبيل البذل بأمان عبر منصة "ساهم"؛ لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا وتركيا، لتخفيف آثار الزلزال عليهم.

 

وهذا التوجيه من ولاة الأمر وتبنيه هو امتداد لمواقف هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية بقيادتها في إغاثة المنكوبين؛ فجزاهم الله خير الجزاء على هذه المبادرة الإنسانية، وندعو الله -تعالى- أن يلطف بعباده المصابين والمتضررين، ويكفي أمة الإسلام الشرور والآفات إنه جواد كريم.

 

المرفقات

الزلزال المروع وقفات وعبر.pdf

الزلزال المروع وقفات وعبر.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات