اقتباس
يتناسب حجم الانحلال في أي مجتمع تناسبًا طرديًّا مع حجم الترف الذي يعيش فيه أبناؤه، فكلما تيسرت الأسباب المادية كان ذلك أدعى إلى تفشي داء اتباع الشهوة بين أفراد المجتمع عامة وبين الشباب خاصة لما فيهم من قوة وفتوة وداعٍ إلى الرذيلة، لاسيما في ظل غياب الوازع الديني والرادع القيمي والأخلاقي بتراجع الخطاب الدعوي، وتداعي المكانة الرفيعة للعلماء والدعاة والصالحين في المجتمع وسيطرة ..
يتناسب حجم الانحلال في أي مجتمع تناسبًا طرديًّا مع حجم الترف الذي يعيش فيه أبناؤه، فكلما تيسرت الأسباب المادية كان ذلك أدعى إلى تفشي داء اتباع الشهوة بين أفراد المجتمع عامة وبين الشباب خاصة لما فيهم من قوة وفتوة وداعٍ إلى الرذيلة، لاسيما في ظل غياب الوازع الديني والرادع القيمي والأخلاقي بتراجع الخطاب الدعوي، وتداعي المكانة الرفيعة للعلماء والدعاة والصالحين في المجتمع، وسيطرة رؤوس الأموال على الإعلام اللاأخلاقي الذي يدعو للرذيلة ليلاً ونهارًا سواء بنشرها علانية، أو الترويج الفكري لها، على أساس أن العري نوع من التحضر والتقدمية في الفكر!! كل تلك الأسباب مما يهيئ لوجود حالة مهلكة من الانحلال بين أبنائنا من الشباب.
لقد أدرك أعداء هذه الأمة أن الشهوة هي أهم عنصر من عناصر القضاء على الأمة وعلى شبابها على وجه الخصوص، فالشباب هم عصب الأمة وسر قوتها وهم المستقبل المشرق الذي تنبني على أكتافه أمجادها، لذلك علموا أن كأسًا وغانية يفعلان في الأمة ما لا تفعله الأسلحة الفتاكة ولا القنابل المدمرة، فغرسوا هذه البذرة في بلاد المسلمين، وها هي اليوم تنبت نبتة خبيثة تسمم حياة الناس وتقتل إدراكهم ووعيهم، وتخنق الحياة فيهم.
إنه ما من جريمة إلا والشهوة منبعُها، وما من كبيرةٍ إلا وهي مبدؤُها، إنَّها قضيةُ الشبابِ الكبرى: الزنا، واللواط، والعادة السرية، والغناء، والمعاكسات الهاتفية، جرائم الاغتصاب والاختطاف، والعشق والإعجاب، إدمان النظر المحرم، السهر والسفر، كلّ هذه الأدواء صدى لهذه القضية، واستجابة لسعارها، إنَّه حجابٌ حُفت به النار، من اخترقهُ دخلها، هي ابتلاءٌ من اللهِ وامتحانٌ لعباده، ليعلمَ الصادقين والصابرين من الكاذبين الجازعين.
والإنسان بطبيعته الفطرية مجبول على حب الشهوات، كما جاء في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ...) [آل عمران: 14]، فهي محبة فطرية وجزء من تكوينه البشري الأصيل لا يحتاج إلى إنكار ولا استنكار؛ حيث هو ضروري لاستمرار الحياة البشرية كي تنمو وتستمر، إلا أن هناك جانبًا آخر يضبط هذا الميل ويحرس الإنسان أن يستغرق في هذا الجانب وحده فيهلك ويهلك المجتمع معه، هذا الجانب هو الجانب الشرعي الذي يعطي استعدادًا لضبط النفس والوقوف بها عند الحدود السليمة لمزاولة هذه الشهوات، وهو الحد الباني للنفس والحياة والمجتمع والذي يرفع الحياة إلى أفق يربط القلب بالملأ الأعلى والدار الآخرة، لذا فإن هذا الاستعداد الثاني يهذّب الاستعداد الأول وينقيه من كل شائبة ويجعله يتحرك في إطار حدوده المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها السُّفلية، على الروح الإنسانية وأشواقها العلوية.
والشهوات مستلذَّة بفعل الفطرة التي وُضعت في الإنسان، والشريعة لا تدعو لاستقذارها ولا كراهيتها، بل تقرر أنها محبوبة لدى البشر: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ...)، وإنما تدعو الشريعة إلى معرفة طبيعتها وبواعثها وتنظيمها في حياة بني آدم لئلا تطغى بهم إلى بحر لا ساحل له من الأمراض المجتمعية التي لا حل لها، وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبوله بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها.
والذين يتحدثون في هذه الأيام عن الكبت وأضراره، وعن العقد النفسية التي ينشئها الكبت والقمع، يقررون أن السبب الرئيس للعقد هو الكبت وليس هو الضبط، وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس، ما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين: ضغط من شعوره -الذي تكوَّن لديه بالإيحاء أو بالفهم الخطأ للدين أو بالعرف- بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلاً، فهي خطيئة ودافع شيطاني! وضغط هذه الدوافع التي لا تُغلَب؛ لأنها عميقة في الفطرة، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية، لا تتم إلا بها، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثًا.
فهذا التناقض الواقع بين الرؤيتين ربما أحدث عند الإنسان حالة من الانفصام ينتج عنها شرخ لا شعوري عميق، وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون العقد النفسية، فحتى إذا سلَّمنا جدلاً بصحة هذه النظريات النفسية، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية، بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي، وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال.
وإننا في ملتقى الخطباء، وفي مختاراتنا لهذا الأسبوع فتحنا هذا الملف استجابة لتعميم فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالرياض، مستشعرين أهمية الحديث عن الإباحية وانتشارها بين شباب الأمة، وأخطارها على الفرد والمجتمع، وعواقبها السيئة وآثارها المدمرة للبيئة المحيطة بالأفراد، مشيرين إلى فتنة النساء والتحذير النبوي منها، نسأل الله تعالى أن يقي شباب الأمة شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التعليقات