اقتباس
إن إلف العبادات دون إجراءات تجديدية على فهم مغزى العبادة والتأمل في آثارها النافعة، واستحضار النية، بل وعدم بذل الوسع في استكشاف نيات جديدة للأعمال، يورث تحولاً للعبادات إلى عادات، فطول الأمد في الطاعة دون استحضار القلب في كل مرة يقطع القلب عن العبادة، ويضرب بينهما بسور كثيف يحجب نور الطاعة عن الانتشار في جنبات القلب، فيقسو القلب، وتنتشر فيه الظلمة ..
يقولون: إن الناس تبع لملوكهم، فإذا صلح حال الملوك صلح حال الرعية، وإذا فسدوا وظلموا فلا مناص من فساد رعيتهم وشيوع الظلم فيما بينهم وارتكابهم لفدائح الأمور، وكذلك حال قلوب البشر؛ فالقلب سيد الجوارح، وهو ملكها والمتحكم فيها، فإذا تخلل القلبَ ظلمٌ وبغي وفساد وقسوة، انطبع ذلك على أعمال الجوارح ولا شك، فتفشِّي الأخلاق السيئة والتصرفات المرذولة والعادات القبيحة في أي مجتمع رهن -أولاً وأخيرًا- بحال القلب، بينما إذا سيطرت الرقة والرحمة واللين على أفئدة الناس انتشرت المحبة والوئام، وتجلت فيه أسمى صور التضحية والبذل من أجل الآخرين وفي سبيل إعلاء كلمة الدين..
حينما يفتح الإنسان صفحة جديدة مع خالقه عز وجل، بعد سجل حافل بالمعاصي والذنوب والشهوات والشبهات؛ فإن العبد يرتقي في مدارج الطاعة بسرعة تفوق -أحيانًا- تصور الكثيرين، بل ويلمس من قلبه خشوعًا وانكسارًا بين يدي الله تعالى، ورقة وتأثرًا من أبسط موعظة حتى وإن جاءته بطريق غير مباشر، فحلول الصيف يتذكر به زفرات جهنم، ومعاينة أم تعطف على ولدها أو تمسح على رأسه أو تحميه من حر الشمس ووهجها يثير في قلبه مشاعر الرحمة والحنان، ومشاهدته للبحر والشمس والقمر والنجوم تذكِّره بقدرة الخالق سبحانه، واستماعه لآيات الذكر الحكيم تثير داخله الخشية والتقوى، وتحرك فيه سفينة الطاعة، فتتساقط من عينية قطرات التوبة والإنابة... وهكذا، فحياة القلب تجلب الحياة للجوارح، ولينه يحركها للعمل، فلا ترضى بالقعود مع الخالفين، وتأبى إلا الانصياع والاستجابة للنداء.
"يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير"، في رقتها وعذوبتها، في تأثرها وتواضعها، في تقواها وإنابتها، في خشوعها وخضوعها، في كل شيء، فإذا حلّ صيف الإيمان في القلوب تبعه شتاء الدمع في العيون، فيسقط قَطْرُ التوبة بعد أن تتبخر مياه الزلل، ليبلل الثرى من تحت الأقدام، فيسجد القلب في ماء وطين، لتنطبع على جبينه سيما الصالحين المخبتين القانتين من أثر السجود، وتفرغ من القلب شحنات الهوى والكبر والأثرة والطغيان، ليحل محلها صفاء الاتباع والتواضع والإيثار.
إن إلف العبادات دون إجراءات تجديدية على فهم مغزى العبادة والتأمل في آثارها النافعة، واستحضار النية، بل وعدم بذل الوسع في استكشاف نيات جديدة للأعمال، يورث تحولاً للعبادات إلى عادات، فطول الأمد في الطاعة دون استحضار القلب في كل مرة يقطع القلب عن العبادة، ويضرب بينهما بسور كثيف يحجب نور الطاعة عن الانتشار في جنبات القلب، فيقسو القلب، وتنتشر فيه الظلمة، وتسكنه العناكب والخفافيش، وتبيض وتفرِّخ فيه حتى تتركه أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه، فتفتر النفس عن أداء الطاعة، وتثَّاقلها؛ لأنها لا تجد محفزًا داخليًا يدفعها إليها، بل إن القلب هنا يقوم بدور عكسي؛ فإن كانت الظروف الحياتية والشهوات والشبهات -وهي المحفزات الخارجية- تؤدي دورها الأكمل، فإن القلب -في هذه الحالة- يحفز هو الآخر نحو المنكر، ويدعوها إلى القبائح والمضرات.
وانطلاقًا من هذا الأساس، وانتشار ضيق النفوس بالطاعة وتهاونها بالمعصية، نضع بين أيدي خطبائنا الفضلاء هذه المجموعة المختارة من الخطب حول هذا الموضوع؛ سائلين الله تعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يعيننا على توعية إخواننا، والإسهام في إصلاح قلوبهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التعليقات