اقتباس
وإن نصحتك مرة باتخاذ الأصدقاء الصالحين والاستكثار منهم، فإنني أحذرك مائة مرة من أن تتخذ صديقًا طالحًا فاسدًا؛ فإنه شر ووبال وشؤم على صاحبه، والأدلة والنماذج والشواهد على ذلك كثيرة...
"رب أخ لك لم تلده أمك"، و"واختر الصديق قبل الطريق"... إن الصداقة منحة ربانية، والصديق الصالح نعمة عليك من ربك، وجليسك الطائع شيء ثمين نادر فلا تضيعه، فمهما كنت مقصرًا ثم جالست الفضلاء وصادقتهم حتى أحببتهم، فإنك مرحوم في الدنيا والآخرة ببركتهم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم"... وفيه أن الله -عز وجل- يُشهِد ملائكته أنه -سبحانه وتعالى- قد غفر لهم، فتقول الملائكة متعجبين: "فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة!"، فيقول الله -سبحانه وتعالى-: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم"(متفق عليه).
فقد نالته المغفرة في الدنيا بفضل مجالسة ومصادقة الصالحين، وكذا تناله بركتهم يوم القيامة، فقد قال الله -تعالى-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67]، ويروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال في هذه الآية: "خليلان مؤمنان وخليلان كافران، مات أحد المؤمنين، فقال: يا رب إن فلانًا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك -صلى الله عليه وسلم-، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، يا رب: فلا تضله بعدي، واهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليثن كل منكما على صاحبه فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب..."(تفسير الخازن).
ولما أراد الله -عز وجل- التوبة والنجاة لمن قتل مائة نفس، سخَّر له من يأمره بالفرار من صحبة الفجار إلى صحبة الأخيار؛ قائلًا له: "انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء"(متفق عليه)، وبذلك كُتبت له النجاة.
وقد نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مصادقة أحد إلا المؤمنين الأتقياء، قائلًا: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي"(رواه أبو داود)، ولا أشك أن هذا الحديث كان نصب عيني الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يقول: "فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله -تعالى-"(الإحياء، للغزالي).
وكما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمصادقة الصالحين، فكذلك قد أمر الله -عز وجل- بمجالسة العابدين الطائعين وبلزوم الصادقين، فقال -عز من قائل- عن العابدين: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)[الكهف: 28]، وقال -سبحانه وتعالى- عن الصادقين: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119]...
فهي صفات كثيرة لمن تُستحَب مصادقته؛ منها: أن يكون صالحًا، مؤمنًا، تقيًا، عابدًا، مخلصًا، صادقًا...
ولذلك كله تجد الشافعي -رحمه الله- ينصح قائلًا:
وأكثر من الإخوان ما استطعت إنهم *** بطون إذا استنجدتهم وظهور
وليس كثـير ألف خل وصاحـب *** وإن عدوًا واحدًا لكـثير
***
وإن نصحك الشافعي مرة باتخاذ الأصدقاء الصالحين والاستكثار منهم، فإنني أحذرك مائة مرة من أن تتخذ صديقًا طالحًا فاسدًا؛ فإنه شر ووبال وشؤم على صاحبه، والأدلة والنماذج والشواهد على ذلك كثيرة، ففي سبب نزول قول الله -عز وجل-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا...)[الفرقان: 27-28]، يقول المفسرون: "كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف، فأسلم عقبة، فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدًا فكفر وارتد"، فنزلت.(تفسير الخازن).
وهذا أبو طالب، لما حضرته الوفاة جاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله"، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.(متفق عليه).
فيا حسرتهما يوم القيامة؛ أن أطاعا صديق السوء وخالفا الصديق الصالح! وصدق من قال:
فارغب بنفسك أن تصادق أحمقًا *** إن الصديق على الصديق مصدق
ولأن يـــعـــــــادي عــــــاقـــــــلًا خــــيرًا له *** مـــــن أن يـــكــــون لـه صـــديـق أحـمـق
وكما نقلنا في بداية كلامنا قول الله -تعالى- في الحديث القدسي عمن جالس الصالحين: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم"، فإننا ننقل هنا كلام القرآن عمن جالس الفاسدين الطالحين، يقول -تعالى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)[النساء: 140]، فجعلهم مثلهم لمجرد مجالستهم وعدم نهيهم ولا هجرهم! فيا خزي من جالس طالحًا يوم القيامة!
ولذلك تسمع مالك بن دينار يحذرك قائلًا: "إنك أن تنقل الحجارة مع الأبرار، خير من أن تأكل الخبيص مع الفجار"، ويؤكده أبو حاتم قائلًا: "العاقل لا يدنس عرضه ولا يعود نفسه أسباب الشر؛ بلزوم صحبة الأشرار"(روضة العقلاء، لابن حبان).
فلا تصحب أخا الجهل *** وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى *** حليمًا حين آخاه
يقاس المرء بالمرء *** إذا ما المرء ماشاه
كحذو النعل بالنعل *** إذا ما النعل حاذاه
وللشيء من الشيء *** مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب *** دليل حين يلقاه
***
وقد تخيَّرنا فيما يلي مجموعة من الخطب التي تتحدث عن الصداقة، وأهميتها، وخطورتها، وأثرها في الدنيا والآخرة، وأسس اختيار الأصدقاء، وآداب الصداقة، وحقوق الصديق... وغيرها من الأمور التي نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها، فإليكم:
التعليقات