التنوع الثقافي ومحاربة التمييز العنصري – خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات:

اقتباس

فلا تنظروا -أيها البشر- إلى المظاهر ولا تميزوا بين الناس على أساسها؛ فإن المظهر غالبًا ما يخدع، ورب رجل تجله لمظهره وهو لا يساوي في موازين الرجال شيئًا: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة"، ورب شخص تحتقره لمظهره وهو عند الله من المخلصين: "رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره"...

هل سمعت يومًا عن: "الأبارتايد"؟ ما دمت مسلمًا فلن تسمع عنه في دينك أبدًا، بل على النقيض تمامًا ستسمع من يذمه ويحرِّمه ويلفظه... وإن رجعت فسألتني: وما هو ذاك "الأبارتايد"؟ قلت لك: هو نظام قائم على الفصل العنصري بين البشر على أساس لون بشرتهم... وهو النظام الذي طبقته الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من سنة 1948 م، إلى سنة: 1993م، وحكمت به الأغلبية السوداء، حيث قسمت الأفراد إلى سود وبيض وملونين، وقد حُرِم غير البيض من حقوقهم، وأنشأت المستشفيات والمدارس والمرافق الخاصة بالبيض وحدهم ولا يسمح للسود بارتيادها! فكان أبيض الجلد هو السيد المطاع الآمر الناهي، أما السود فهم العبيد الحقراء الذين يجب عليهم أن يجهدوا لخدمة أسيادهم البيض!

 

***

 

ومن هنا يمكننا تعريف التمييز العنصري بأنه تصنيف الناس والتفرقة بينهم في المعاملة على أساس الجنس أو النوع أو العرق أو اللون أو اللغة... أو على أساس مستواهم الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي...

 

وعُرِّف التمييز العنصري أيضًا بأنه: "الاعتقاد بأن هناك فروقًا وعناصر موروثة بطبائع الناس أو في قدراتهم، وعزوها لانتمائهم لجماعة أو لعرق ما، وبالتالي تبرير معاملة الأفراد المنتمين لهذه الجماعة بشكل مختلف اجتماعيًا وقانونيًا. (نقلًا عن: ويكيبديا الموسوعة الحرة)، فحال الضعيف الفقير عندهم كما صوَّره الشاعر:

يمشي الفقير وكل شيء ضده *** ويرى العداوة لا يرى أسبابها

حتى الكلاب إذا رأت ذا نعمة *** هشت إليه وحركت أذيالها

وإذا رأت يومًا فقيرًا معدمًا *** نبحت عليه وكشرت أنيابها

 

***

 

وإن سألتني -الآن- عن حكم الإسلام في هذا التمييز العنصري، أجبتك: إن الإسلام بريء من هذا التمييز جملة وتفصيلًا ينبذه ويبغضه ويلفظه ويحرِّمه على أتباعه، ولا عجب فإن الإسلام هو الذي جمع بين بلال العبد الحبشي الأسود وبين أبي بكر الحر القرشي الأبيض، إن الإسلام هو الذي آخى بين سلمان الفارسي وصهيب الرومي وأبي ذر الغفاري وأبي عبيدة المهاجري وأبي أيوب الأنصاري...

 

إن الإسلام هو الذي وضع القاعدة العامة التي تقول: "إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى"(أحمد، وصححه الألباني)، وهو تفسير تفصيلي لقول الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13].

 

نعم، إن الإسلام يعلِّم أتباعه أنه لا معيار للمفاضلة بين البشر إلا التقوى والعمل الصالح، الإسلام يعلِّمنا أن المرء لا يتميز عن غيره بوسامة وجهه ولا بقوة جسده ولا بماله وثرواته... وإنما يمكن أن يمتاز على غيره بعمله وبما يحمل في قلبه؛ فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"(مسلم).

 

حقًا، صدقت يا رسول الله، ولا تحتاج إلى تصديقنا- إن الله لا ينظر إلى أجسامنا، ألم تر أن الله -عز وجل- قال عن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[المنافقون: 4].

 

هذا مقياس الله ومقياس رسوله -صلى الله عليه وسلـم- في التفاضل بين البشر؛ الأكرم هو الأتقى والأصلح عملًا والأنقى قلبًا، ولا مفاضلة بين البشر على أساس النسب أو الغنى أو الفروق الجسدية، يروي سهل بن سعد فيقول: مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"(البخاري)، فصحح لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- مفهومهم المغلوط.

 

فلا تنظروا -أيها البشر- إلى المظاهر والخصائص الظاهرية؛ فإن المظهر غالبًا ما يخدع، ورب رجل تجله لمظهره وهو لا يساوي في موازين الرجال شيئًا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الكهف: 105]"(متفق عليه)، ورب شخص تحتقره لمظهره وهو عند الله من المخلصين، فعن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره"(مسلم)، وفي لفظ للحاكم: "رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره".

 

من هؤلاء رجل كان يدعى أويس بن عامر وكان مصابًا بالبرص، وكان مغمورًا معزولًا بين قومه، يروي أسير بن جابر حكايته فيقول: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"، فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.

 

قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس، قال: تركته رث البيت، قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه، إلا موضع درهم له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"، فأتى أويسًا فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح، فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدًا بسفر صالح، فاستغفر لي، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أسير: وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة! (مسلم).

 

ومن هؤلاء أيضًا عبد الله بن مسعود ضعيف البنية قوي الإيمان، متواضع المظهر مبهر الجوهر، يروي زر بن حبيش، أن عبد الله بن مسعود كان يحتز لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواكًا من أراك، وكان في ساقيه دقة، فضحك القوم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:  "ما يضحككم من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده إنهما أثقل في الميزان من أحد"(ابن حبان وصححه الألباني)، فآن للناس ألا يلهيهم المظهر عن الجوهر.

 

***

 

وآن للناس -أيضًا- أن يدَعوا التفاخر بمتاع الدنيا الزائل وبأحسابها وأنسابها التافهة، فإن هذا شيء يبغضه الإسلام كان ينبغي أن يموت مع الجاهلية الأولى، فعن ابن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم فتح مكة، فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب"(الترمذي وصححه الألباني)، ومن حديث أبي أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "...والله أذهب فخر الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم"(البيهقي في الشعب).

 

وهذه واقعة حدثت في عهد نبي الله موسى -عليه السلام- تبرز أن التفاخر ليس محرمًا في ديننا فقط، بل في كل دين سماوي قبل أن يحرَّف، فعن معاذ بن جبل قال: انتسب رجلان من بني إسرائيل على عهد موسى -عليه السلام- أحدهما: مسلم، والآخر مشرك، فانتسب المشرك فقال: أنا فلان بن فلان حتى بلغ تسعة آباء، ثم قال لصاحبه: انتسب لا أم لك. قال: أنا فلان بن فلان، وأنا بريء مما وراء ذلك، فنادى موسى الناس فجمعهم، ثم قال: "قد قضي بينكما أما الذي انتسب إلى تسعة آباء فأنت فوقهم العاشر في النار، وأما الذي انتسب إلى أبويه فأنت امرؤ من أهل الإسلام"(أحمد)، لسان حال الرجل المسلم:

أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم

 

ولقد كانت سقطة من الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري -رضي الله عنـه- حين عيَّر رجلًا بسواد جلده وبتواضع أصل أمه، فعن المعرور بن سويد، قال: لقيت أبا ذر بالربذة، وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلًا فعيرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم"(البخاري).

 

وعند البيهقي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاقبه بأكثر من ذلك، فعن أبي أمامة قال: عير أبو ذر بلالًا بأمه، فقال: يا ابن السوداء، وإن بلالًا أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبره فغضب، فجاء أبو ذر ولم يشعر، فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما أعرضك عني إلا شيء بلغك يا رسول الله، قال: "أنت الذي تعير بلالًا بأمه؟"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي أنزل الكتاب على محمد -أو ما شاء الله أن يحلف- ما لأحد علي فضل إلا بعمل، إن أنتم إلا كطف الصاع"(البيهقي في الشعب).

 

***

 

ولأن هذا الموضوع حيوي وخطير، ولأن كثيرين من المسلمين -للأسف الشديد- قد وقعوا فيه تمامًا كما تنبأ النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"(مسلم)، ولأن البعض يظنون في نفوسهم -وإن لم يفصحوا- أنهم أفضل من غيرهم... ولأسباب أخرى قد رأينا في ملتقى الخطباء أن نطرح على أحبابنا بعضًا من الخطب التي تتناول هذا الأمر بالتصحيح والتوجيه والتأصيل، ولعلها تكون خطوة في سبيل إصلاح المجتمع الإسلامي.

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
الخطبة العاشرة:
الخطبة الحادية عشر:
العنوان
العصبية الجاهلية 2018/02/03 8402 925 27
العصبية الجاهلية

لِأَجْلِ ذَلِكَ ظَهَرَتِ الْعَصَبِيَّاتُ فِي الْبَشَرِ لِلْعِرْقِ، أَوْ لِلْوَطَنِ، أَوْ لِلِّسَانِ، أَوْ لِلَّوْنِ، وَأَكْثَرُ حُرُوبِ الْبَشَرِ وَتَكَتُّلَاتِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ كَانَ مَبْنَاهَا عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ الَّذِي لَا يُحِبُّه اللهُ -تعالى- وَلَا يَرْضَاهُ، وَتَرْفُضُهُ شَرَائِعُهُ وَتَأْبَاهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعَصُّبَ لِلْعِرْقِ، أَوْ لِلْوَطَنِ، أَوْ لِلِّسَانِ، أَوْ لِلَّوْنِ سَبَبٌ لِإِقْصَاءِ الدِّيَانَةِ، وَتَعْطِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَالاسْتِكْبَارِ عَنْ عِبَادَتِهِ -تعالى-، وَرَفْضِ...

المرفقات

العصبية الجاهلية

العصبية الجاهلية - مشكولة

التعليقات
زائر
13-02-2022

شكرا جزيلا

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life