ترسيخ خير الأنام لأسس التعايش السلمي في الإسلام

خالد بدير بدوي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الأسس التي أقيم عليها المجتمع المسلم في المدينة وتوضيحها 2/التعايش السلمي وأسسه في المجتمع المسلم 3/التعايش السلمي بين الواقع والمأمول

اقتباس

إن الفُرْقَة والاختلاف داءانِ وبيلانِ يَقْعُدان بالأفراد والأمم عن الإصلاح والبناء، ويمكنان للهدم والفساد، ويسبِّبان ظلمةَ القلوب، وفساد الألسن، والطعن في الناس، وقد يؤديان إلى الاحتراب والتقاتل...

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: لما هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة أسَّسَ الدولة الإسلامية الجديدة على أُسُس ثلاث:

 

الأساس الأول: بناء المسجد، الأساس الثاني: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ الأساس الثالث: المعاهَدات بين المسلمين وغيرهم.

 

وقفتُ عند هذه الأسس الثلاث وقلتُ: لماذا ركَّز النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأسس الثلاث مع أن في الإسلام أسسًا غيرها كثيرة؟!!!

 

والجواب: أن هذه الأسس الثلاث هي أساسٌ للتعايش السلمي وربطٌ للصلة من جوانبها الثلاثة: فالمسجد ليربط صلةَ وعلاقةَ العبدِ بربه، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لتربط علاقة المسلم بأخيه المسلم؛ والمعاهَدات بين المسلمين وغيرهم لتربط علاقة المسلم بغير المسلم.

 

وهاك البيان:

أولا: كان الأساس الأول هو توثيق الصلة بالله -تعالى-؛ لأن أي مجتمع لا يكون متصلًا بالله؛ لا يُكتب له النصرُ ولا النجاحُ، ولأن الاتصال بالله يعزِّز أهلَ الحقِّ وينصرهم نصر عزيز مقتَدِرٍ، وتمثَّلَ توثيقُ الصلة بالله ببناء المسجد النبوي الشريف الذي كان أول عمل قام به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة وشارَك بنفسه في بناء المسجد النبوي؛ ليوضحَ أهميةَ المسجد وأهمية رسالة المسجد في أداء الشعائر وتوثيق الصلة بالله -سبحانه- وعقد مجالس العلم والخير.

 

ثانيا: كان الأساس الثاني يتمثَّل في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فقد آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، وجعَل منهم إخوة متحابين تعاونوا وتحابوا بروح الله؛ فأصبحوا متعاونين على البر والتقوى، وكان الأنصار عند حُسْن ظن النبي بهم، لدرجة أن هذه المؤاخاة لم يقف أمرها عند حدِّ المؤاخاة فحسب بل أصبحوا بها يتوارثون كما يتوارث الأبناء من آبائهم حتى نزل قولُه -تعالى-: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الأنفال: 57].

 

وكان من ثمرة هذه المؤاخاة ما تميَّز به الأنصار من إيثار غيرهم على أنفسهم، حتى في الطعام؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ: مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ، لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ، فَقَالَ: "مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-؟ "، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟، قَالَتْ: لَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِ السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُّ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ، قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ". وفي ذلك يقول -تعالى-:(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]. وقصة عبدالرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع معلومة ومشهورة.

 

ثالثا: وكان الأساس الثالث الذي أقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- الدولة الإسلامية عليه هو تلك المعاهَدة التي عاهَد فيها المسلمين وغيرهم من اليهود والمشركين فشرط لهم وشرط عليهم، وهي تعتبر أول وثيقة عرفتها البشرية لحقوق الإنسان.

 

وهذه المعاهدة تُفحم بعض الذين يتشدقون بأن في الإسلام عصبية أو أن فيه عنصرية، فكان التعايش السلمي يحمل أوضح الدلائل على تسامُح الإسلام.

 

والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقف وقفة المعالِج عند حِدَّة الاختلاف أو التفرق أو التنافر بين أفراد المجتمع؛ امتثالًا لقوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران: 103].

 

"رُوِيَ أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج؛ وذلك أن رجلا من اليهود مَرَّ بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هُمْ عليه من الاتفاق والألْفَة، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويُذَكِّرهم بما كان من حروبهم يوم بُعَاث وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حَمِيَتْ نفوسُ القومِ وغضب بعضُهم على بعض، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم فجعل يُسكِّنهم ويقول: "أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟" وتلا عليهم هذه الآيةَ، فنَدِموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا، وألقوا السلاح" (تفسير ابن كثير).

 

كما كان -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن العصبية القبلية التي تُوَلِّدُ التفرقةَ العنصريةَ في المجتمع، والتي تؤثِّر سلبًا على التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ" (أبو داود).

 

وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كنا في غَزاةٍ -قال سُفيانُ مرةً: في جيشٍ- فكَسَعَ رَجُلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال الأنصارِيُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المهاجرِيُّ: يا لَلمهاجرينَ، فسمِع ذاك رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: "ما بالُ دَعوى جاهليةٍ". قالوا: يا رسولَ اللهِ، كَسَعَ رجلٌ من المهاجرينَ رجلًا من الأنصارِ، فقال: "دَعوها فإنها مُنتِنَةٌ". فسمِع بذلك عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ فقال: فعَلوها، أما واللهِ لئِنْ رجَعْنا إلى المدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فبلَغ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فقام عُمَرُ فقال: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عنُقَ هذا المنافقِ، فقال النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "دعه، لا يتحدَّثُ الناسُ أن محمدًا يقتُلُ أصحابَه". وكانتِ الأنصارُ أكثرَ من المهاجرينَ حين قدِموا المدينةَ، ثم إن المهاجرينَ كثُروا بعدُ" (متفق عليه).

 

إن الإسلام شدَّدَ في نهيه عن العصبية القبيلة، وأن الجَنَّةَ لا ندخلها بالأنساب؛ فهذا أبو لهب من أشراف قبيلة قريش، وكان عمَّ الرسولِ (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ)[الْمَسَدِ: 3]؛ وبلال بن رباح عبد حبشي أسود سمع الرسولُ خشخشةَ نَعلِه في الجنة.

 

ومن خلال ما قدمناه من نماذج يتبين لنا كيف حقَّق الإسلام قيمَ التسامح والتعايش السلمي والرحمة بصورة واضحة في التعايش بين الأديان والمذاهب المختلفة، على أساس من حرية ممارسة الشعائر الدينية والتخلي عن التعصب الديني والتمييز العنصري، بل نراه كيف منح الحرية في الإبداع من خلال دائرة الاجتهاد القائمة إلى يوم الدين.

 

رسخ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مبدأَ التعايش السلمي بين المسلمين أنفسهم وبين المسلمين وغيرهم على عدة أُسُس تتمثل فيما يلي:-

أولًا: المواطنة: فحينما استقرَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة بعد الهجرة إليها أسَّس نظامًا عامًّا أساسه التعايش السلمي، وبالمصطلح الحديث فإنه أرسى مبدأ المواطَنة، ولا شكَّ أننا -اليومَ- في أشد الحاجة إلى هذا المفهوم؛ مفهوم أن تعيش مع الآخر، مفهوم المواطنة، مفهوم قَبول الآخَر؛ فالنبي -عليه الصلاة والسلام- وجد في المدينة مزيجًا إنسانيًّا متنوعًا من حيث الدين والعقيدة، وحيث الانتماء القبلي، والعشائري، ومن حيث نمط المعيشة، المهاجرون من قريش، والمسلمون من الأوس والخزرج، والوثنيون من الأوس والخزرج، واليهود من الأوس والخزرج، وقبائل اليهود الثلاثة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة؛ والأعراب الذين يساكنون أهل يثرب، والموالي، والعبيد، وغيرهم.

 

مهاجرون، أوس، وخزرج: منهم مسلمون، منهم وثنيون، منهم يهود، قبائل اليهود الثلاثة، أعراب، عبيد، بالمصطلح الحديث: مجتمعٌ فُسَيْفِسَائِيٌّ، كبعض البلاد الإسلامية، التي يقتتل أهلها، فكيف وفَّق النبيُّ بين هذه الانتماءات؟ وبين هذه الاتجاهات وتلك الأديان؟ بين المؤمنين بدين؟ وبين الوثنيين؟ بين المؤمنين بدين وهم مشركون؟ وبين الموحِّدين؟ هذا الذي نحن في أَمَسِّ الحاجة إليه، كي نستطيع أن نقف في وجه أعدائنا الذين يتربصون بنا الدوائرَ؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد تعامَل مع غير المسلمين من خلال مبدأ السلام والتعايش السلمي حتى مع كل مَنْ عاداه وآذاه، ومع ذلك فقد غدروا به مراتٍ عديدةً، وشواهد ذلك من السنة والسيرة أكثر من أن تُحصى وأنت بها خبير.

 

فكانت دعوته -صلى الله عليه وسلم- تعتمد السلامَ منهاجا‏،‏ والتسامح سلوكا‏،‏ فقد بدأ دعوتَه بالحكمة والموعظة الحسنة‏، ولم يتخلَّ يوما عن الرِّفق واللين في القول والعمل، عملا بقول الله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125]، وبهذا المنهج الوسطي اليسير أسس الإسلام مبدأ التعايش بين جميع الأطياف والمذاهب المختلفة في إطار من المواطَنة والعدل والمساواة والدعوة إلى التعارف والتعاون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13].

 

ثانيًا: احترام آدمية الإنسان: فالإسلام يتعامل مع جميع طوائف البشر من خلال مبدأ التكريم الإلهي للإنسان، والذي يتمثَّل في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70]، وقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[التين: 4]، وقد مَرَّتْ بِالنَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِنَازَةٌ فَقَامَ؛ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ! فَقَالَ: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!" (البخاري).

 

ثالثا: الحرية: ومن أبرز معالِم التعايش السلمي الحرية؛ فهي من أكبر مظاهر الكرامة الإنسانية والطريق إلى الإيمان الصحيح والمسئولية؛ حيث تركت الشريعةُ للإنسان حريةَ الاختيار والمشيئة دون جبر أو إكراه على الدين الحق، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الكهف: 29]، وقال: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[الْبَقَرَةِ: 256]؛ وقد شَهِدَ بذلك الغربُ؛ يقول توماس آرنولد: "لم نسمع عن أية محاولة مدبَّرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أيِّ اضطهاد منظَّم قُصِدَ منه استئصال الدين المسيحي".

 

رابعا: العدالة: ومن أهم الأسس أيضا العدالة التي نشرها الإسلام منذ أول لحظة والتي أمر الله -تعالى- بها قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[النساء: 58]؛ فأمر بالعدل بين الجميع فلم يَقُلْ: وإذا حكمتم بين المسلمين بل قال: وإذا حكمتم بين الناس؛ ليشمل الجميع.

 

وفي سبيل تحقيق العدالة بين الجميع نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ظلم أحد من غير المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (سنن أبي داود)؛ أي إنه يكون خصما لمن يظلم معاهدا أو واحدا من غير المسلمين.

 

ومن عدالة القضاء ما رُوِيَ من قصة درع علي بن أبي طالب وهو أمير المؤمنين؛ فقد تنازع مع يهودي على درع، فاحتكما إلى القاضي شريح، الذي قال: "يا أمير المؤمنين، هل من بينة؟" قال: "نَعَمْ، الحَسَنُ ابني يشهد أن الدرع درعي"، قال شريح: "يا أمير المؤمنين، شهادة الابن لا تجوز"، فقال علي: "سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟"، فقال: "يا أمير المؤمنين، ذلك في الآخرة، أمَّا في الدنيا فلا تجوز شهادة الابن لأبيه". فقال علي: "صدقت -الدرع لليهودي". فقال اليهودي: "أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه! أشهد أن هذا الدين على الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين، سقط منك ليلًا". فأهداه أمير المؤمنين الدرع. (البيهقي في الكبرى).

 

ومن ذلك قصة الأعرابي مع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فعَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ، أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ، فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ، فَأَسْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ، وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْتَاعَهُ، فَنَادَى الْأَعْرَابِيُّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ وَإِلَّا بِعْتُهُ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ: أَوَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَلَى، قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ، فَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا، فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى خُزَيْمَةَ، فَقَالَ: بِمَ تَشْهَدُ؟، فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ". (سنن أبي داود).

 

خامسًا: البِرُّ وحُسن العشرة والمعاملة: أمر اللهُ في القرآن الكريم المسلمين ببِرِّ مُخالفيهم في الدين، الذين لم يتعرضوا لهم بالأذى والقتال، فقال: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الْمُمْتَحَنَةِ: 8-9].

 

قال الطبري: "عَنَى بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتَصِلُوهُم وتُقسطوا إليهم.. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يقول: إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم".

 

وقد تجلَّى حُسْنُ الخُلُق عند المسلمين في تعاملهم مع غيرهم في كثير من تشريعات الإسلام التي أبدعت الكثيرَ من المواقف الفيَّاضة بمشاعر الإنسانية والرفق.

 

فقد أوجب الإسلام حُسن العشرة وصلة الرحم حتى مع الاختلاف في الدين، فقد أمر الله بحسن الصحبة للوالدين وإن جهدا في ردِّ ابنهما عن التوحيد إلى الشرك، فإن ذلك لا يقطع حقَّهما في بِرِّه وحُسْن صحبته، فقال تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمان: 15].

 

وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: "قَدِمَتْ أُمِّي -وَهِيَ مُشْرِكَةٌ- فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمُدَتُهُمْ مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ" (متفق عليه).

 

وروى البخاري (في الأدب المفرد) عن مجاهد أنه سَمِعَ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو يقول لغلام له يسلخ شاة: "يا غلام، إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي". فقال رجل من القوم: اليهودي أصلحك الله!؟ فقال: "سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُوصي بالجار، حتى خشينا أنه سيورثه". وشواهد ذلك عديدة وكثيرة.

 

سادسًا: التكافل الاجتماعي: وهذا من أهم الضمانات التي يقدمها الإسلام لغير المسلمين -الذين يقيمون في المجتمع المسلم- كفالتهم ضمن نظام التكافل الإسلامي.

 

فقد كتب خالد بن الوليد لنصارى الحيرة: "أيما شيخ ضَعُفَ عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دِينه يتصدقون عليه؛ طُرِحَتْ جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله".

 

ورُوِيَ أنَّ عُمرَ بنَ الخطابِ رأى شيخًا كبيرًا من أهل الجزية يسأل الناسَ فأخذ بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: "انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)[التَّوْبَةِ: 60]، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب"، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.

 

وكتب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز إلى واليه عدي بن أرطأة: "وانظر مَن قِبَلك مِن أهلِ الذمةِ قد كبرت سِنُّه وضعفت قوته وولت عنه المكاسبُ؛ فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه" (الأموال؛ أبو عبيد).

 

وقد سجَّلَ هذه الرعايةَ الفريدةَ المستشرقُ "بارتولد" في كتابه: "الحضارة الإسلامية"، فقال: "إن النصارى كانوا أحسنَ حالًا تحت حكم المسلمين، إذ أن المسلمين اتبعوا في معاملاتهم الدينية والاقتصادية لأهل الذمة مبدأ الرعاية والتساهل".

 

هذه هي أهم مظاهر التعايش السلمي التي يدعو إليها الإسلامُ من خلال قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[البقرة: 208].

 

العنصر الثالث: التعايش السلمي بين الواقع والمأمول: عبادَ اللهِ: يُحزنني كثيرا ما نحن فيه من اختلاف وتفرُّق؛ وما يحدث في واقعنا من جرائم؛ وما يُرتكب فيه من إراقة الدماء وقتل للأبرياء.

 

إنني أدعو جميع أطياف المجتمع إلى الاجتماع والاعتصام والوحدة، فالاجتماع والاتفاق سبيل إلى القوة والنصر، والتفرق والاختلاف طريق إلى الضعف والهزيمة، وما ارتفعت أمة من الأمم وعلت رايتها إلا بالوحدة والتلاحم بين أفرادها، وتوحيد جهودها، والتاريخ أعظم شاهد على ذلك، ولذا جاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله -عز وجل-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تدعو إلى هذا المبدأ العظيم، وتحذِّر من الاختلاف والتنازع، ومنها قوله -تعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46]، وفي حديث أبي مسعود: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكِبَنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" (رواه مسلم).

 

إن الفُرْقَة والاختلاف داءانِ وبيلانِ يَقْعُدان بالأفراد والأمم عن الإصلاح والبناء، ويمكنان للهدم والفساد، ويسبِّبان ظلمةَ القلوب، وفساد الألسن، والطعن في الناس، وقد يؤديان إلى الاحتراب والتقاتل.

 

فعلى المؤمنين -مهما اختلفتْ مذاهبهم، ومهما تعدَّدت مشاربهم، ومهما تنوَّعتْ آراؤهم وتباينتْ أفكارهم- أن يتراحَموا فيما بينهم، وأن تغشاهم سحب المحبة، وأن يرتشفوا معًا فُرات المودة والتعاطف، وأن يستظلوا جميعًا بظلال الإخاء والوداد، فهم -كما شبَّههم رسول الله صلى الله عليه وسلم- جسدٌ واحدٌ؛ وذلك عندما قال: "مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَل الجسد، إذا اشتكى منه عضو: تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (البخاري ومسلم).

 

إن هدف الغرب واليهود هو تمزيق وحدة المسلمين؛ وقد صرَّحوا بهذا الحقد والحسد على وحدة المسلمين واجتماعهم في كتبهم واجتماعاتهم ومؤتمراتهم، ففي بروتوكولات (حكماء صهيون) قالوا: "إننا لن نستطيع التغلب على المسلمين ما داموا متحدين دولًا وشعوبًا تحت حكم خليفة واحد، فلا بد من إسقاط الخلافة وتقسيم الدولة الإسلامية إلى دويلات ضعيفة لا تستطيع الوقوف في وجهنا، فيسهل علينا استعمارها". ويقول لورانس براون: "إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالَم وخطرًا، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذٍ بلا وزن ولا تأثير".

 

إنني أدعو جميع أفراد المجتمع إلى التعايش السلمي وأن يحل الاتفاق مكان الاختلاف؛ والاجتماع والاعتصام بدلا من التفرق والتشرذم، والحب بدلا من الكره، والإيثار بدلا من الأثرة، والإخاء بدلا من العداوة؛ وبالجملة محاسن الأخلاق بدلا من مساوئها؛ ولنرجع إلى القيم الخلقية التي تَحَلَّى بها الرعيلُ الأولُ من صحابة النبي، ومن أهم هذه القيم قيمة الإيثار التي كانت علامة بارزة في طريق التعايش السلمي الذي أصبح عملة نادرة في واقعنا المعاصر؛ فهناك فَرْق بين مَن يعرف هذه المعانيَ ويتفوه بها وبين مَن يُطَبِّقها عمليًّا؛ وهناك فرق بين ﻣَﻦ ﻳﺘﻠﻔﻆ ﺑﺎﻟﺤﺐ ﻭﻣﻦ ﻳﻌﻴﺸﻪ؛ وقد ﺳﺌﻞ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺎﺀ ﻳﻮﻣﺎ: ﻣﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻔﺮﻕ ﺑﻴﻦ ﻣﻦ ﻳﺘﻠﻔﻆ ﺑﺎﻟﺤﺐ ﻭﻣﻦ ﻳﻌﻴﺸﻪ؟ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ: ﺳﻮﻑ ﺗﺮﻭﻥ ﺍلآﻥ!! ﻭﺩﻋﺎﻫﻢ ﺇﻟﻰ ﻭﻟﻴﻤﺔ، ﻭﺑﺪﺃ ﺑﺎﻟﺬﻳﻦ ﻟﻢ ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﻛﻠﻤﺔ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺷﻔﺎﻫﻬﻢ ﻭﻟﻢ ﻳﻨﺰﻟﻮﻫﺎ ﺑﻌﺪ ﺇﻟﻰ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻭﺟﻠﺲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺎﺋﺪﺓ، ﻭﻫﻢ ﺟﻠﺴﻮﺍ ﺑﻌﺪﻩ …؛ ﺛﻢ ﺃﺣﻀﺮ ﺍﻟﺤﺴﺎﺀ ﻭﺳﻜﺒﻪ ﻟﻬﻢ، ﻭﺃﺣﻀﺮ ﻟﻜﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻠﻌﻘﺔ ﺑﻄﻮﻝ ﻣﺘﺮ! ﻭﺍﺷﺘﺮﻁ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﺤﺘﺴﻮﻩ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻤﻠﻌﻘﺔ ﺍﻟﻌﺠﻴﺒﺔ! ﺣﺎﻭﻟﻮﺍ ﺟﺎﻫﺪﻳﻦ ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻔﻠﺤﻮﺍ، ﻓﻜﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻘﺪﺭ ﺃﻥ ﻳﻮﺻﻞ ﺍﻟﺤﺴﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﻓﻤﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺴﻜﺒﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ!! ﻭﻗﺎﻣﻮﺍ ﺟﺎﺋﻌﻴﻦ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ.

 

ﺣﺴﻨﺎ، ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ: ﻭﺍﻵﻥ ﺍﻧﻈﺮﻭﺍ! ﻭﺩﻋﺎ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﻤﻠﻮﻥ ﺍﻟﺤُﺐَّ ﺩﺍﺧﻞ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻤﺎﺋﺪﺓ، ﻓﺄﻗﺒﻠﻮﺍ ﻭﺍﻟﻨﻮﺭ ﻳﺘﻸﻷ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﻫهﻢ ﺍﻟﻮﺿﻴﺌﺔ، ﻭﻗﺪﻡ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻤﻼﻋﻖ ﺍﻟﻄﻮﻳﻠﺔ! ﻓﺄﺧﺬ ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻠﻌﻘﺘﻪ ﻭﻣﻸﻫﺎ ﺑﺎﻟﺤﺴﺎﺀ ﺛﻢ ﻣﺪﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﺟﺎﺭﻩ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﺠﺎﻧﺒﻪ، ﻭﺑﺬﻟﻚ ﺷﺒﻌﻮﺍ ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ، ﺛﻢ ﺣﻤﺪﻭﺍ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻗﺎﻣﻮﺍ ﺷﺒﻌﺎﻧﻴﻦ.

 

ﻭﻗﻒ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻭﻗﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻤﻊ ﺣﻜﻤﺘﻪ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻋﺎﻳﺸﻮﻫﺎ ﻋﻦ ﻗﺮﺏ: "ﻣﻦ ﻳﻔﻜﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎﺋﺪﺓ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺃﻥ يشبع ﻧﻔﺴﻪ ﻓﻘﻂ ﻓﺴﻴﺒﻘﻰ ﺟﺎﺋﻌﺎ، ﻭﻣﻦ ﻳﻔﻜﺮ ﺃﻥ ﻳﺸﺒﻊ ﺃﺧﺎﻩ ﺳﻴﺸﺒﻊ الاﺛﻨﺎﻥ ﻣﻌﺎ! ﻓﻤﻦ ﻳﻌﻄﻲ ﻫﻮ ﺍﻟﺮﺍﺑﺢ ﺩﻭﻣﺎ ﻻ ﻣﻦ ﻳﺄﺧﺬ".

 

فهيا إلى تنقية قلوبنا من الشحناء والبغضاء والحقد والحسد، وليحل مكانَها التراحم والتواصل والحب، فهذا رجل يَسُبُّ ويشتم ابن عباس -رضي الله عنهما- أمام الناس، فيكظم غيظَه ولا يرد عليه، فما زال الرجل يسبه ويشتمه، فقال له ابن عباس: "أتشتمني وتسبني وفيَّ ثلاث خصال. قال: وما هي؟ قال: ما نزلت الأمطار في أرض إلا سُرِرْتُ بذلك وليس لي في تلك الأرض شاة ولا جَمَل، وما سمعتُ بقاضٍ عادل إلا حمدتُ اللهَ ودعوتُ له في ظهر الغيب وليس لي عنده قضية، وما تعلمتُ آيةً من كتاب الله أو حديثًا من سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إلا وددتُ أن كلَّ مسلم علم منها ما علمتُ".

 

فانظر إلى ابن عباس يحب الثلاث ويسر بها مع أنه ليس له فيها جَمَل ولا ناقة، ومع ذلك يُحِبُّ لأخيه ما يحبه لنسفه، ويسر لسرور الآخرين ويحزن لحزنهم، فأين نحن من هذه المعاني؟!!!

 

ألا فلنتَّحِدْ جميعًا من أجل بناء مجتمعنا، من أجل بناء وطننا، من أجل بناء مصرنا، من أجل بناء حضارتنا، بعيدين عن التفرقة، عن التشرذم، عن التحزب، عن التشتت، حتى نحقق آمالنا، ويعلو بنياننا، ونبلغ منانا، فنكون جميعًا أدوات بناء لا أدوات هدم!!

 

ومتى يبلغ البنيان يومًا تمامه *** إذا كنتَ تبني وغيرك يهدم؟!!!

 

نسألُ الله أن يَجمعَ شَمْلنا وقلوبَنا على طاعته، وألا يجعلَ في قلوبنا غِلًّا للذين آمنوا.

 

المرفقات

ترسيخ خير الأنام لأسس التعايش السلمي في الإسلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات