الافتقار إلى الله - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:

اقتباس

حين قلَّ الافتقار إلى الله، ورأت النفوس كثرتها وقوتها وسلاحها وعتادها، وظنت أنه بهذا يكون النصر - كادت تقع الهزيمة يوم حنين، يقص علينا القرآن الأمر فيقول: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)...

 

أيها الإنسان: مهما ملكت فأنت الفقير، ومهما عظمت فأنت الضئيل، ومهما قويت فأنت الضعيف، ومهما عشت فعمرك قصير، ومهما بصرت فنظرك كليل، ومهما تعلمت فما أوتيت من العلم إلا قليل!

 

فإن أقر هذا الإنسان بضعفه وعوزه وجهلة وافتقاره وحاجته... كان من العقلاء الفطناء الأذكياء، وإن أعلن فقره لربه واحتياجه لخالقه وعوزه لمن يكفيه ويهديه ويرشده ويحفظه ويحميه ويرزقه... كان من المؤمنين الصادقين المصدقين، وكيف لا تُعلن الذرة الضئيلة المنثورة في هذا الملكوت اللامتناهي ضعفها وعوزها وافتقارها للغني الكبير الخالق العظيم -عز وجل-؟!

 

***

 

ونقررها هنا حقيقة ثابتة تقول: إن قمة قوة الإنسان وعزه في ضعفه وانكساره وحاجته وافتقاره إلى ربه، وكأن القرآن يريد أن يقول لنا هذا حين حكى عن الحال التي تنزَّل فيها النصر على الصحابة يوم بدر: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)[آل عمران: 123]، والمراد بذلتهم ضعف الحال وقلة العدد وقلة السلاح والمركوب والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو... (تفسير الخازن)، ومن ثم كان افتقارهم إلى الله شديد وحاجتهم إليه ماسة ودعاؤهم له كله تذلل وإخلاص ومسكنة وخضوع... وذلك سبب النصر.

 

وفي وضوح قرر القرآن هذه الحقيقة قائلًا: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[الأنفال: 17]، قال مجاهد: سبب نزول هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن قتال أهل بدر كان الرجل يقول: أنا قتلت فلانًا، ويقول الآخر: أنا قتلت فلانًا، فنزلت هذه الآية، والمعنى: فلم تقتلوهم بقوتكم ولكن الله قتلهم بنصره أو بإمداده إياكم بالملائكة، فكأن القرآن يقول لهم: إن افتخرتم بقتلهم فلستم أنتم من قتلهم إنما هو الله؛ (تفسير الخازن)، وصدق الله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)[آلعمران: 126].

 

وتمام الافتقار إلى الله -تعالى- أن نعلم أن الحول منه والقوة منه والرزق منه والنصر منه وكل خير منه -سبحانه وتعالى-، وهذا ما كان يحرص رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- على ترسيخه في قلوب الصحابة، يروي البراء -رضي الله عنه- فيقول: كان النبي -صلى الله عليه وسـلم- ينقل التراب يوم الخندق، حتى أغمر بطنه، أو اغبر بطنه، يقول: "والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا، وثبت الأقدام إن لاقينا، إن الألى قد بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا" ورفع بها صوته: "أبينا أبينا"(متفق عليه)، نعم، لولا الله ما اهتدينا ولا صلينا ولا تصدقنا ولا تعلمنا ولا عملنا ولا كنا ولا خُلقنا...

 

ولا أشك أن هذه القولة التي قالها  رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- قد استقاها من قول الله -تعالى- حكاية عن كلام أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف:43].

 

والافتقار إلى الله -عز وجل- مع أنها عبادة عظيمة وبابًا واسعًا للوصول إلى مرضاة الله، فإن العجيب أنك تجد كثيرًا من الناس وقد هجروه فلم يطرقوه، يُحكى عن بعض العارفين، أنه قال: "دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه".

 

فمن تبرأ من حوله وقوته ومن علمه وعبقريته ومن بأسه وقوته ومن جرأته وشجاعته ومن نفسه إلى القوة المطلقة والقدرة الفائقة، إلى من لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء، نال ما تمنى ووصل إلى ما أمل، فقط بخروجه من حوله وقوته إلى حول الله وقوته.

 

***

 

والعكس بالعكس والضد بالضد؛ فإن قمة الضياع والضعف والخذلان والانتكاس أن ينفرد الإنسان بأمره ويظن أن القوة من عند نفسه والنجاح من عبقريته والرزق بجده والنصر بسيفه، وليس ببعيد عنا ما فُعل بقارون لما قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص: 78]، أليس قد قال عنه القرآن: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)[القصص: 81].

 

وأخرى يوم حنين، حين قلَّ الافتقار إلى الله، ورأت النفوس كثرتها وقوتها وسلاحها وعتادها، وظنت أنه بهذا يكون النصر، كادت تقع الهزيمة، يقص علينا القرآن الأمر فيقول: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)[التوبة: 25]، لقد كادت تنزل بالصحابة الهزيمة -وبينهم رسول الله صلى الله عليه وسـلم- لأنهم غفلوا لحظة عن سر نصرهم وتفوقهم على أعدائهم؛ إنه عبوديتهم وافتقارهم إلى ربهم.

 

***

 

فليتنا نسمع نداء الله لنا إذ يقول -عز من قائل-: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)[فاطر: 15-17].

 

وما أجمل وأروع ما قال ابن تيمية -رحمه الله- متمسكنًا ومتذللًا ومعلنًا افتقاره إلى ربه:

أنا الفقير إلى رب البريات *** أنا المسكين في مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي *** والخير إن يأتنا من عنده يأتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعة *** ولا عن النفس لي دفع المضراتِ

وليس لي دونه مولى يدبرني *** ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي

إلا بإذن من الرحمن خالقنا *** إلى الشفيع كما قد جاء في الآياتِ

ولست أملك شيئا دونه أبدًا *** ولا شريك أنا في بعض ذراتِ

ولا ظهير له كي يستعين به *** كما يكون لأرباب الولاياتِ

والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا *** كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم *** وكلهم عنده عبد له آتي

فمن بغى مطلبًا من غير خالقه *** فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي

والحمد لله ملأ الكون أجمعه *** ما كان منه وما من بعد قد ياتي

 

***

 

وإننا في هذا الملتقى الذي يسعى لخدمة الخطباء، لنعلن افتقارنا إلى ربنا -سبحانه وتعالى-، ونقر أنه ما بجهدنا ينهض الخطباء، ولا بعملنا يتقدم الدين ويسود، وإنما نحن أسباب، والفعال لما يريد هو الله -عز وجل-؛ ونحن بأمس الحاجة إلى رفد الله وعونه وهدايته وتوفيقه.

 

ولشعورنا بأهمية عبادة الافتقار إلى الله، وأنها من الأصول العظام؛ فقد جمعنا ما يزيد الأمر جلاءً وبيانًا من الخطب المنبرية القيمة؛ لعلها تكون سببًا في حث العباد على سلوك طريق الافتقار إلى الله فنغنم ويغنمون، والله من وراء القصد.

 

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
العنوان
أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني 2015/05/14 13592 717 42
أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني

الغني بالله هو الغني بلا مال، القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد، قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك، وهذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين إن حركه ربه بطاعة أو نعمة شكرها، وقال هذا من فضل ربي ومنه، فله الحمد...

المرفقات

أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني.doc

المرفقات
بوست022-الافتقار-إلى-الله-02.jpg
بوست022-الافتقار-إلى-الله-01.jpg
التعليقات
زائر
29-07-2023

ماشاء الله مهم جدا حفظكم الله ورعاكم 

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life