الافتقار

الشيخ د فيصل بن عبد الرحمن الشدي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ أهمية الافتقار إلى الله 2/ حقيقة الافتقار إلى لله 3/ بعض افتقار الأنبياء لله 4/ داء التعلق بغير الله وخطر ذلك 5/ وسائل تحقيق الافتقار إلى الله

اقتباس

فقراء إلى الله من جميع الوجوه؛ فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا، فقراء في إعدادهم، بالقوى، والأعضاء، والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها، لما استعدوا لأي عمل كان، فقراء في إمدادهم، بالأقوات، والأرزاق والنعم، الظاهرة والباطنة، فلولا...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله عزّ فاقتدر, وعلا فقهر, بحكمته جرى كل قدر, وبعدله سارت أحداث البشر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاز من بأمره ائتمر، وبزجره ازدجر, وخاب من أعرض واستكبر.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الشافعُ المشفع في المحشر، ذو الطلعة الأغر، والوجه الأنور, سيد البشر, فداه أبي وأمي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الميامين الغرر، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب والمستقر.

 

أما بعد:

 

يا خالق الأكوان أنت المرتجى *** وإليك وحدك ترتقي صلواتي

يا خالقي ماذا أقول وأنت تع *** لمني وتعلم حاجتي وشكاتي

يا خالقي! ماذا أقول وأنت مط *** لع علىشكواي والأناتِ

 

اللهم يا موضع كل شكوى! ويا سامع كل نجوى! ويا شاهد كل بلوى! يا عالم كل خفية! ويا كاشف كل بلية! ندعوك دعاء من اشتدت فاقته، وضعفت قوته، وقلّت حيلته، يا أرحم الراحمين؛ ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر حوبنا، اللهم أعزنا بمزيد ذلنا بين يديك، وأغننا بمزيد فقرنا إليك، وقونا بمزيد ضعفنا وفاقتنا إليك، نحن بك وإليك.

 

مسكين -والله- من ظن أنه استغنى عنك، خاسر من حرم لذة التذلل بين يديك، والافتقار إليك.

 

عباد الله: حبيبكم -صلى الله عليه وسلم- حج البيت وطاف ودعا وسعا ودعا، وذهب إلى عرفات ودعا، وأطال الدعاء، وذهب إلى مزدلفة وعند المشعر الحرام دعا، وذهب إلى منى ورمى الجمرات أيام التشريق ودعا بينهن، ودعا وأطال الدعاء، وودع البيت بطواف ودعا؛ كل هذا لتتعلم الأمة أن أجل العبادات، وأعظم المقامات، مقام الدعاء، والضراعة إلى الله والالتجاء.

 

ويا عبد الله: إذا فتح الله لك باب الدعاء في السراء والضراء، في الجهر والخفاء، في الصبح والمساء، فاعلم أن الله -جل جلاله- يحبك، وأن الله أرادبك خيرا.

 

ويا عبد الله: ما دعوت، ولا ليديك رفعت، إلا ترجو الإجابة، ألا وإني مشيرٌ إليك بمفتاح عظيم جليل من مفاتيح إجابة الدعاء، ما أخذ به العبد إلا أقبل الله على دعائه، وأجاب ندائه، وحقق رجائه، ونادى الله الجليل في عليائه: أن أجيبوا داعي عبدي واستجيبوه، وهذا المفتاح هو: الافتقار إلى الله.

 

نعم بقوتك لا تتجبر، وبمالك لا تبطر، وبصحتك لا تغتر، وبجاهك وجمالك لا تتبختر، وبصالحاتك وحسناتك لا تفخر.

 

إنما تظهر فقرك للغني حقا، وتظهر ضعفك وفاقتك وتذلك ومسكنتك لله صدقا.

 

ألا وإن أبواب السماء تفتح لمن رفعوا أيديهم بكل وفقر وافتقار، وصدق دعوة واضطرار.

 

فقيرا جئت بابك يا إلهي *** ولست إلى عبادك بالفقير

غني عنهم بيقين قلبي  *** وأطمع منك في الفضل الكبير

إلهي ما سألت سواك عونا  *** فحسبي العون من ربقدير

إلهي ما سألت سواك عفوا  *** فحسبي العفو من رب غفور

إلهي ما سألت سواك هديا  *** فحسبي الهدي من رب بصير

إذا لم أستعن بك يا إلهي  *** فمن عوني سواك ومن مجيري؟

 

فالافتقار إلى الله -تعالى- أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه -عز وجل- متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر: 15- 17].

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ) قال ابن سعدي: "فقراء إلى الله من جميع الوجوه؛ فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا، فقراء في إعدادهم، بالقوى، والأعضاء، والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها، لما استعدوا لأي عمل كان، فقراء في إمدادهم، بالأقوات، والأرزاق والنعم، الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه، وتيسيره الأمور، لما حصل لهم من الرزق والنعم شيء، فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد، فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد، فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير، فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له -تعالى-، فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم، وأحوالهم، فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلهم، فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا، فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر، أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا حري بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بوالدها".

 

وإن المتأمل في جميع الأدعية القرآنية والأدعية النبوية، يجدها تنبض بالفقر وتعلن الحاجة, وتنطق بالفاقة إلى الله -تعالى-.

 

قال بعضهم في الدعاء: هو لسان الافتقار بشرح الاضطرار، انظر إلى قوله تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 286].

 

وقوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران: 26 - 27].

 

إن فيها إعلان الافتقار إلى الله -تعالى- في كل شيء، والبراءة من الحول والطول والقوة إلا به جل وعلا، والانطراح على أعتابه، والاعتصام بجنابه.

 

ولله كم شهدت الأرض سجدات المفتقرين إلى الله؟ لله كم أنورت ظلمات الليالي بتضرع المتضرعين، شكوا فقرهم إليه، وبثوا فاقتهم بين يديه، يسجد أحدهم سجوداً طويلاً يمرغ أنفه وجبهته في التراب بالذل معترفا، وبالحول والطول والغنى إلى مولاه مفوضا، يناجيه ويدعوه ويبكيه، ويقول: "إلهي أغلقت الملوك أبوابها ، وبابك مفتوح للسائلين ، إلهي غارت النجوم، ونامت العيون، وأنت الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، إلهي فرشت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه، وأنت حبيب المتهجدين وأنيس المستوحشين. إلهي إن طردتني عن بابك فإلى أي باب ألتجئ؟ وإن قطعتني عن خدمتك فخدمة من أرتجي؟ إلهي إن عذبتني فإني مستحق العذاب والنقم، وإن عفوت عني فأنت أهل الجود والكرم؟ يا سيدي لك أخلص العارفون، وبفضلك نجا الصالحون، وبرحمتك أناب المقصرون، يا جميل العفو أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك، وإن لم أكن أهلا لذلك فأنت أهل التقوى والمغفرة".

 

يا أهل الإيمان: حبيبكم -صلى الله عليه وسلم- كان آية في إظهار الافتقار إلى الله، لكم تذلل بين يدي ربه، ولكم طأطأ رأسه بين يدي خالقه، ولكم رفع يديه عالياً في بعض مواضع دعائه حتى إن ظهور يديه من شدة رفعه كانت إلى السماء، ولكم ألح على ربه في الدعاء حتى سقط رداؤه من على كتفيه وهو يدعو، فيرحمه الصحابة، وأقرب هاتيك المواقف من أيامنا هذه موقفه عشية عرفة إذ قضى عشية ذلك اليوم في حال من الافتقار والتضرع واللهج بالدعاء، حتى ظن أصحابه أنه قد صام يومه ذلك لما رأوا من انقطاعه للعبادة والدعاء، وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره، كاستطعام المسكين منكسراً لربه -عز وجل- حتى إنه عندما اضطربت به راحلته فسقط خطامها تناوله بيد، وأبقى يده الأخرى مبسوطة يدعو بها، فكان مفتقراً إلى الله بقوله وفعله، ومما ذُكِرَ مِن دُعائه هناك: "اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كَلامي، وتَرَى مَكَاني، وتَعْلَمُ سرِّي وعَلانيتي، لا يخفى علَيْكَ شَيء مِنْ أَمْري، أَنا البَائسُ الفَقيرُ، المُسْتَغِيثُ المُسْتَجيرُ، وَالوَجلُ المُشفِقُ، المقِرُّ المعترِفُ بِذُنُوبي، أَسْأَلكَ مَسْألةَ المِسْكين، وأبْتَهِلُ إليْكَ ابْتهالَ المُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذلَّ جَسَدُهُ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لا تَجْعلني بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً، وكُن بي رَؤُوفاً رحيماً، يا خيْرَ المَسْؤُولين، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ" [ذكره الطبراني].

 

قصدتك مضطراً وجئتك باكيا *** وحاشاك ربي أن ترد بكائيا

كفاني فخراً أنني لك عابد *** فيا فرحتي إن صرت عبداً مواليا

إلهي فأنت الله لا شيء مثله *** فأفعم فؤادي حكمة ومعانيا

أتيت بلا زاد، وجودك مطعمي *** وما خاب من يهفو لجودك ساعيا

إليك إلهي قد حضرت مؤملا *** خلاص فؤادي من ذنوبي ملبيا

 

أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، استغفروه -رحمكم ربي- إنه كان غفارا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

يا لله! فقد الكثير طعم الافتقار إلى الله العظيم الكبير! يوم أن تعلقت قلوب بالنقير والقطمير، يوم أن تعلقت قلوب بشهوات البطون، وبشهوات الفروج، وبشهوات النظر، وبشهوات المال، وبشهوات اللسان، فأصبحت عليه، وأمست عليه، هو حديثها، وإليه نظرها، وعليها علقت قلوبها، فكان لهم الخذلان، يقول ابن القيم: "أعظم الناس خذلاناً من تعلق بغير الله، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت".

 

وإذا أردت فعلاً صدق الافتقار إلى الله، فأولاً: أدرك عظمة الجبار -جل جلاله-؛ فكلما كان العبد أعلم بالله -تعالى- وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقاراً إليه وتذللاً بين يديه، قال الفضيل بن عياض: "رهبة العبد من الله على قدر علمه باللّه".

 

ومَنْ تدبر الآيات البينات والأحاديث الشريفات التي جاء فيها ذكر صفاته العلى وأسمائه الحسنى؛ انخلع قلبه إجلالاً لربه، وتعظيماً لمقامه، وهيبة لسطوته وجبروته سبحانه وتعالى.

 

وثانياً: أدرك ضعفك وعجزك؛ فمن عرف قدر نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً؛ تصاغرت نفسه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه، قال عز وجل: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) [الطارق: 5 - 10].

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات