اقتباس
إن من أسباب انقطاع الغيث وتأخره؛ امتناع الناس عن إخراج الزكاة المفروضة، أو التحايل في إخراجها، أو إخراجها من دون طيب نفس، ولا شك أن ذلك موجب للقحط وانقطاع القطر من السماء...
جعل الله الابتلاء سنة ماضية بين عباده في الخير والشر والسراء والضراء والبأساء والنعماء؛ لأجل أن يبلوهم -سبحانه-! أيصبرون ويشكرون، أم يجحدون ويكفرون؟ قال في محكم كتابه العزيز: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء:35].
والله -سبحانه- يبتلي من يشاء من عباده وإن مما يبتلي الله به عباده: ابتلاؤه لهم بنعمة الغيث والمطر؛ فيبتليهم بانقطاعه كما يبتليهم بنزوله؛ فابتلاهم بنزوله لتنعم به نفوسهم وأنعامهم، كما قال -سبحانه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ)[السجدة:27]؛ أي: بأبصارهم نعمتنا وكمال حكمتنا؛ فرأوا كيف أن الله ساق إليهم الماء إلى الأرض التي لا نبات فيها؛ فأخرج به الزرع والثمار مما تأكل منه أنعامهم وأنفسهم. كما أن الله -تعالى- يبتليهم بانقطاع نعمة المطر ونزول الغيث ويؤخرها عنهم، لأسباب يقترفها العباد ومخالفات يمارسها البشر، ولعلنا نقف على أهم أسباب انقطاع الغيث وانحباسه؛ فمن تلك الأسباب:
أولا: امتناع الناس عن إخراج الزكاة المفروضة أو التحايل في إخراجها أو إخراجها من دون طيب نفس؛ ولا شك أن هذا من أعظم الأسباب الموجبة للقحط وانقطاع القطر من السماء، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا".
وهذه العقوبة عادلة؛ لأن في ذلك مخالفة لأمر الله وتفويت لحق فرضه الله للفقراء والمحرومين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[المعارج:24- 25]، ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)[التوبة: 34-35].
ثانيا: الكبرياء والتعالي على الخلق بالمال والجاه: وهذا مانع من موانع نزول المطر؛ فالغيث لا ينزل؛ إلا بإظهار التذلل والافتقار للخالق، والتواضع واللين للمخلوقين، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 42-43]. ولهذا كان من هديه –صلى الله عليه وسلم- إذا خروج للاستسقاء أن يخرج متذللا خاشعا، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "خَرَجَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- للاستسقَاء مُتَذَلِلاً، مُتَواضِعاً، مُتَخَشِعاً، مُتَضَرِعاً"(رواه الترمذي).
ثالثا: انتشار الفساد بين الناس؛ سواء كان تزويرا أو رشوة أو سرقة أو غشا؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن"، ثم ذكر منها: "ولم يَنْقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجور السلطان عليهم"(رواه ابن ماجة)، ولما كثر فساد قريش وطغيانها؛ سلط الله عليهم سنينا كسنين يوسف -عليه السلام-؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن قريشا لما غلبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- واستعصوا عليه، قال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف"؛ فأخذتهم سَنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع"(رواه البخاري).
رابعا: فشو الذنوب المعاصي والمجاهرة بها؛ فهي موجبة لحبس المطر عن الناس، وحلول القحط؛ لأن المعاصي سبيل لإغضاب الرب، وقد لا يقتصر أثرها على أصحابها، بل يتعداهم إلى غيرهم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ أنه سمع رجلا يقول: "إن الظالم لا يضر إلا نفسه"؛ فقال أبو هريرة: "بلى والله، حتى الحُبارَى (طائر) لَتموتُ في وكرها هزالا من ظلم الظالم"، وقال مجاهد -رحمه الله-: "إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة، و أمسك المطر"، وتقول: "هذا بشؤم معصية ابن ادم"، وقال عكرمة -رحمه الله-: "دواب الأرض وهوامها، حتى الخنافس والعقارب يقولون: "منعنا القطر بذنوب بني آدم".
أيضمن لي فتى تركَ المعاصي *** وَأَرْهَنُهُ الكفالة بالخلاص
أطاع اللهَ قومٌ فاستراحوا *** ولم يتجرعوا غُصص المعاصي
عباد الله: تلكم بعض أسباب انقطاع الغيث وتأخره؛ علينا أن نجتنبها قربة لله -تعالى- وطلبا لفضله وجلبا لنعمه، ولا يقف الأمر بنا عند اجتناب المخالفات الشرعية فحسب؛ بل يجب علينا سلوك الوسائل الشرعية التي بها نستجلب النعم ونستدفع النقم، ويعم خير الله في الأرض، ومن تلك والوسائل: الاعتصام بالله وكتابه وشرعه والاستقامة عليه: قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن:16].
ومنها: المداومة على الاستغفار، قال-سبحانه- على لسان نوح -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)[هود: 52]، وقال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح:10-12].
ومن الوسائل التي بفعلها ينزل الغيث: تقوى الله -عز وجل-، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف:96]. ومن الوسائل التي ينال بها كل خير ويزول بها كل بلاء وضير: الافتقار إلى الله وإظهار الاضطرار إليه، قال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[النمل:62]؛ فإذا استسقى الناس ولم يسقوا دل ذلك على ضعف في الاضطرار، وفتور في الارتباط بالله تعالى والتوكل عليه، وهو السر في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يستسقي ربه فيسقيه فورا؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "أصاب أهلَ المدينة قحطٌ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فبينما هو يخطبنا يوم جمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكُراع (الخيل)، هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا؛ فمد يديه ودعا"، قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة [ليس فيها سحاب]؛ فهاجت ريح، ثم أنشأت سحابة، ثم اجتمعت، ثم أرسلت السماء عَزَالِيَهَا [فتحت أفواهها وجيوبها]، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى؛ فقام إليه ذلك الرجل أو غيره؛ فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت؛ فادع الله أن يحبسه؛ فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "حوالينا ولا علينا"؛ "فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة كأنه إكليل"(متفق عليه).
ومن الوسائل: التوسل إلى الله بالصالحين، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه، عن عمر بن الخطاب ر-ضي الله عنه-: "كان إذا قحطوا، استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، قال: "فيسقون"، وروى ابن عساكر -رحمه الله- بسند صحيح، "أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس؛ فقال ليزيد بن الأسود: "قم يا بكاء"؛ فما دعا إلا ثلاثا حتى أمطروا مطرًا كادوا يغرقون منه".
فاتقوا الله -عباد الله-، واستقيموا على شرعة ربكم، (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح:11-12].
خطباؤنا الكرام: وضعنا بين أيديكم عددا من الخطب لبعض المشايخ الفضلاء مع مقدمة يسيرة عن أسباب تأخر الأمطار وحبس الغيث، والوسائل الشرعية التي نستجلب بها الغيث؛ فذكروا بها جموع المصلين وعامة المسلمين ليتوبوا إلى الله من أسباب منع الغيث وحبسه، ويبادروا بالأسباب الشرعية التي بها يغاثون وتسقى أنعامهم؛ سائلين المولى -جل شأنه- أن يرزقنا غيث الإيمان في قلوبنا وغيث الأمطار في أوطاننا.
التعليقات