عناصر الخطبة
1/ فضل الذكر والذاكرين2/ ثمرات الذكر 3/ عدم ارتباطه بوقت أو هيئة 4/ مجالاته 5/ فضل ذكر الله في الخلوات 6/ إخفاء السلف لأعمالهم 7/ حاجتنا لمراقبة الله في الخلوات 8/ فضل البكاء من خشية الله 9/ هدي النبي والسلف في البكاء خشيةً لله.اهداف الخطبة
1/استكمال التعريف بالسبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة 2/ بيان فضل الذكر والذاكرين 3/ الحث على ذكر الله في الخلوات والبكاء فيها.اقتباس
وجِماعُ المَقالِ أنَّ المُسْتَظِلَّ بظِل العرش ذِكْرُ ربِّه على لسانه, لا يغفل إذا غفل الناس, ولا يخوض في القيل إذا خاضوا, بدنه هنا, وفكره في السماء, ربه على لسانه, وفي قلبه وفؤاده, إذا أنِسَ الناس بالناس فأُنْسُه في خلوته برب الناس, وإذا خلا المحبُّ بحبيبه, خلا هو متعبداً لربه, تدمع عينه شوقاً لله، وخشية منه، وطمعاً في ثوابه, ذلكم هو..
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, وتغفر السيئات, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده رب البريات, وعالم السر والخفيات, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, بعثه ربه إلى العباد بشيراً ونذيراً, وقدوة وإماماً, فجلا بدعوته الظلام, وأنار الدرب للأنام, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحابته الكرام.
أما بعد: فبالتقوى تُنال الخيرات، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
معشر المسلمين: هل رأيتم حياً وميتاً كيف يفترقان؟ أرأيتهم بيتاً خرباً وقصراً مشيداً كيف يختلفان؟ ومهما بلغ ما بينهما من التباين, فإن ما بين الذاكر لربه والغافل عن ذكر ربه كما بين الحي والميت, والسماء والأرض، والثرى والثريا؛ وفي الصحيح: "مثَل الّذي يذكر ربّه والّذي لا يذكر ربّه مثل الحيّ والميّت".
وحديثنا اليوم -أيها الكرام- هو خاتمةٌ لأحاديث مضت عن المستظلين بظل العرش, عن سابعهم، وهو رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
عباد الله: في زمن الغفلة وكثرة الملهيات نحتاج للتذكير بالذكر, وفي زمن تيسر ذنوب الخلوات نحتاج للتذكير بتذكر الله في الخلوات, وفي زمن جفاف العيون نذكّر بشرف من فاضت عيناه لأجل الله.
إن هذا الرجل -أيها الكرام- قد استحق الاستظلال بالعرش في وقت الشدائد وحرّ الشمس لأنه ذكر ربه فما غفل, وذكر الله خالياً متخفياً, وفاضت عيناه دمعاً من خشية الله؛ صفاتٌ ثلاثٌ قمينٌ بالطامح لنيل الكرامة أن يتمثلها.
أما ذكر الله فهو الحصن الواقي، والبلسم الشافي, شبهه يحيى عليه السلام – كما في السنن- برجل لحق به العدو, حتى إذا كادوا أن يظفروا به تحصن بحصن فما قدروا عليه, فذاكم ذاكر الله، متحصن من الشرور والشياطين.
حين يأنس البعض بذكر الناس فإن أشرف الكلمات, وأعظم الكرامات أن تذكر ربك ومولاك, فبذكره تستدفع الآفات، وتكشف الكربات، وتهون المصائب والمكدرات.
كم هو شرف لابن آدم أن ييسر الله له ذكره, فيذكره في الأرض, ويذكره الله في مقابل ذلك في الملأ الأعلى وبين الملائكة! فمن أنت حتى تُذكَر في السماء؟ شَرُفت لأن الله على لسانك!.
يا لله! ما أعظمه من شرف حين يذكرك ملك الملوك! أما إنه لو قيل لامرئ ذكرك وأثنى عليك ملِكٌ أو رئيس لفرح, فكيف والذاكر هو الله, والحضور هم الملائكة؟
فأكْثِرْ ذِكْرَهُ في الأرْضِ دَوْمَاً *** لِتُذْكَرَ فِي السَّمَاءِ إِذَا ذَكَرْتَا
اللسان، أيها الكرام, هذه الجارحة الصغيرة في حجمها، الخطيرة في أمرها, ما أجمل أن تُحرّك بذكر ملك الملوك! عملٌ لا يحتاج لعناء, بل لربما قمت به قاعدا ومضطجعاً, عمل لا يحتاج لوضوء ولا تعب, فنبينا -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر الله على كل أحيانه, عمل لا يحتاج لحركة, ولا لبذل مال, ولا لجهد بدن؛ لكنه أشرف من كثير من الأعمال.
أوما أتاكم نبأ تلك الكلمات التي خاطب بها النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً أصحابه؟ حيث قال: "ألَا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟"، فعجب الصحابة, واشرأبّتْ الأعناق للعمل الذي سيُذْكَر، وقالوا: بلى! فقال: "ذكر الله".
نعم، إنه الذكر لله, به تبدد الأحزان, ويسعد الإنسان, ويطمئن القلب، ويزول الكرب، (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
نعم، إنه الذكر للمولى، من أعطيه اتّصل، ومن مُنِعَه عُزِل، وهو القوت والسلاح، به تُطفأ حرائق الذنوب, وتُداوى أسقام النفوس.
الذاكرون لله هم أولو الألباب، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران:191].
مجالس الذكر أشرف المجالس, تحفها الملائكة, وتتنزل عليها السكينة, وتغشاها الرحمة, وما مجلس خلا من ذكرٍ إلا كان ترةً وحسرةً على أصحابه كما في الحديث.
الذكر -أيها الكرام- ليس له وقت, بل في كل آن, نصلي فنذكر الله, نحج فنذكر الله (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة:203]، نجاهد فنذكر الله: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45].
لا سواء بين مَن ربّه على قلبه ولسانه, يذكره ويلهج باسمه, ومن هو غافل لاهٍ, القلب غافل, واللسان يذكر كل شيء إلا الله!.
لا سواء بين بيت يسمع الذكر في جنباته, وبيت تصدح الأصوات المنكرة فيه, و"مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لاَ يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ"رواه مسلم.
عباد الله: وهل هناك أشرف من الحسنات نطلبها, ومن الجنة نرغبها؟ وفي الذكر كنوز الحسنات, فهي أحب الكلمات لرب البريات, قال-صلى الله عليه وسلم-: "أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ؛ لاَ يَضُرُّكَ بَأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ".
فَالذِّكْرُ هُوَ الكَنْزُ الباقي حين تفنى الكنوز, قال –صلى الله عليه وسلم-: "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة, وهي غراس الجنة".
"الجنة قيعان طيبة التربة، وغراسها سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، وبالذكر تبنى قصور الجنة, قال ابن القيم: دور الجنة تبني بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء.
يا أيها الراغبون للكنوز والأجور، يا من تطمحون للربح الباقي: إن كلمة: "الحمد لله" تملأ الميزان، وإن "سبحان الله، والحمد لله" تملآن ما بين السّماوات والأرض, قاله -صلى الله عليه وسلم-, ولقد قال أيضاً: "أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف سنة؟ يسبح مائة تسبيحة فيكسب ألف حسنة".
وحين تُنصب الموازين, ويبحث المرء عما يُثقل كفة حسناته, فإن سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده، لخفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرّحمن.
وحين يتسابق الناس إلى الله فاعلم أن الذاكرين لله أسبق الناس, ولقد جاء فقراء الصحابة يوماً إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-يشكون سبق الأغنياء لهم بالصدقات, فدلهم على عملٍ إن قاموا به سبقوا الأغنياء, أن يذكروا الله ويسبحوه ثلاثا وثلاثين.
فيا أيها المبارك، سل نفسك: ما نصيب الذكر من كلماتك؟ غبن أن تتحدث كثيراً وكلماتك تصب في ميزان السيئات, تقصير أن تثني على فلان وفلان, وتنسى الثناء على الرحيم الرحمن, وربكم يحب الثناء كما في الحديث.
حِرمانٌ أن يرزقك الله اللسان, ثم لا تلهج به في شكر للمنان, كم تمكث من الأوقات فارغاً, في عملك وسيارتك, في ليلك ونهارك؟ فهل ملأت الصحائف من أيسر الأعمال وأشرفها, وهو ذكر الله؟.
لقد عرفتُ رجلاً إذا غربت شمس ليلة الخميس معلنة دخول الجمعة إلى غروب شمس الجمعة لسانه متحرك بالصلاة على النبي, مطبقاً قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فأكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة" فعُد له ذلك فإذا هو يصلي على النبي أكثر من عشرة آلاف مرة!.
معشر الكرام: وذكر الله أوسع من تسبيحه وتحميده, فقارئ القرآن إذ يتلو الآيات ذاكر لله, بل القرآن أشرف الذكر, وطالب العلم إذ يقرأ ويحفظ ذاكر لله, ومعلم الناس الخير ذاكرٌ لله كذلك.
ولئن كان الذكر بين الناس عظيماً, فإنه إذا خلا الذاكر عن الخلائق أشرف وأعظم, فليس ثمة ما يدعوه لمراءاة مخلوق, بل ذكره لله لا لسواه, فهنيئاً لمن عمر وقته بذكر الله, وكان لسانه رطباً بذكر مولاه, واستغل أوقات فراغه وحرك اللسان بما يزيد حسناته!.
عباد الله: وحين يزين الشيطان المعصية للعبد, ويخلو من نظر رقيب من الخلق, فهنا يتميز المستظل بظل العرش بأنه يتذكر الله في خلوته, أجل؛ ربما اختفى المرء عن الخلائق, فلا يراه أحد لو عصى, لكنه يتذكر الله فينزجر, وإذا خلا عن نظر الناس تعبد لربه, لأنه يريد وجهه وهو يراه أينما كان.
ولقد كان السلف يتعبدون, ولأعمالهم يخفون, كي لا يكدرها الشيطان بطلب الرياء, كان حسان بن أبي سنان إذا سمع الموعظة بكى حتى يبل ما بين يده ولا يسمع له صوت, وقال الحسن عن أولئك الرعيل: إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها, فإذا خشي أن تسبقه قام.
إنهم قوم يريدون وجه الله, وما يغني كلام الناس إذا أشاروا بالبنان لامرئ أنه الخاشع البكّاء, أو أنه الباذل المعطاء؟ سيذهبون عما قريب وينسون, ولن يبقى للمرء إلا عمل أخلصه لله.
وكم نحتاج -أيها الكرام- ونحن في أوان تيسر السبل للمعصية, إلى تذكر من لا تخفى عليه خافية, جميل أن تحسن الظاهر, وأجمل منه أن تراقب ربك في الباطن, فإذا زين الشيطان لك العصيان فأين تختفي منه؟ وهو (لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء) [آل عمران:5]، فأقوالك يسمعها الذي سمع المجادِلة من فوق سبع سماوات, وأفعالك يراها الذي يرى دبيب النمل في الظلمات, فأين تغيب عن رب الأرض والسماوات؟!.
اللهم اجعلنا ممن يذكرك في الجلوات والخلوات, ومن يراقبك في كل الحالات. اللهم صل على محمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده.
حين تفيض دموع أقوامٍ لأجل دنيا, أو لأجل فقد خليل رحل عن الدنيا, أو ربما لأجل أمر محرم وبلوى, فإن المستظل بظل العرش تدمع عينه من خشية الله.
وقطرة ربما حرّمت إنساناً على النار, فعين بكت من خشية الله لا تمسها النار, ولكن خروجها يحتاج لقلب حي وجل, فليست الخشية تباع وتشترى؛ إذن لاستأثر بها الأغنياء! إنما هي في القلب، ينالها من قرَّب الرب, ولا علاقة لها بحظوظ الدنيا.
أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فلقد بكى، وكان لصدره صوت كصوت المرجل من البكاء, بكى عند سماع قراءة ابن مسعود, وأطال البكاء في المقبرة, وأما السلف فلهم مع الخشية شأن ينبئك عن قدر حياة قلوبهم.
يبكيهم تذكر الجنة ونعيمها, ربما أكثروا البكاء لآية مرت بهم, ولقد حدثنا أحد كبار السن أنهم كانوا إذا جنّ الليل يسمعون بكاء القائمين المتهجدين.
كان السلف يبكيهم زيارة المقابر، وشهود الجنائز, بل بكى بعضهم حين رأى نار التنور تلهب، ورؤوساً مشوية, ربما تولوا وأعينهم تفيض دمعاً لأنهم لم يتيسر لهم الخروج للجهاد.
ولمثل هذه الأمور يبكي المسلم, لواقع المسلمين، ورؤية أحوال المستضعفين, لتذكر الرحيل من الدنيا وقلة الزاد تدمع العين, يبكيهم زيارة المقابر وشهود الجنائز؛ قال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعاً باكياً، أو متقنعا متفكراً.
كانوا يرون عيناً لا تبكي من خشية الله لا خير فيها, وقد اشتكى ثابت البناني عينيه فقال له الطبيبُ: اضمن لي خصلة تبرأُ عيناك. فقال: وما هي؟ قال:لا تبكِ. فقال: وما خير في عين لا تبكي؟.
وجِماعُ المَقالِ أنَّ المُسْتَظِلَّ بظِل العرش ذِكْرُ ربِّه على لسانه, لا يغفل إذا غفل الناس, ولا يخوض في القيل إذا خاضوا, بدنه هنا, وفكره في السماء, وربه على لسانه, وفي قلبه وفؤاده, إذا أنِسَ الناس بالناس فأُنْسُه في خلوته برب الناس, وإذا خلا المحبُّ بحبيبه, خلا هو متعبداً لربه, تدمع عينه شوقاً لله، وخشية منه، وطمعاً في ثوابه, ذلكم هو المستظل بظل العرش: "رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
المستظلون بظل العرش (1) إمام عادل
المستظلون بظل العرش (2) شاب نشأ في عبادة الله
المستظلون بظل العرش (3) رجل قلبه معلق بالمساجد
المستظلون بظل العرش (4) ورجلان تحابا في الله
المستظلون بظل العرش (5) ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله
المستظلون بظل العرش (6) ورجل تصدق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم