عناصر الخطبة
1/الدنيا متاع الغرور 2/ سرعة انقضاء الزمن والاعتبار بذلك 3/ استغلال الأعمار في طاعة اللهاقتباس
إن الله -تعالى- هو خالق البشر، وهو -سبحانه- خالق الزمان، وهو -عز وجل- جعل البشر يعيشون في هذا الزمان بأعمار وآجال قدرها -سبحانه وتعالى-، وهو -سبحانه- من يبارك في أعمار من شاء من عباده فيعملون في الزمن القليل أعمالاً صالحة كثيرة، وتُمحق البركة من أعمار آخرين فلا ينجزون شيئاً رغم أنهم عمروا في الدنيا طويلاً ..
الحمد لله الخلاق العليم، خالق الخلق ومدبر الأمر، لا يكون شيء إلا بأمره، ولا يقضى إلا بعلمه، منه الهداية وإليه (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة:142] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يتقرب العباد إليه شبراً إلا تقرب إليهم ذراعاً، ولا يتقربون إليه ذراعاً إلا تقرب إليهم باعاً، ولا يأتونه يمشون إلا أتاهم هرولة، ولا يذكرونه في ملأ إلا ذكرهم في ملأ خير منه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ كان عمله دائماً، وإذا عمل عملاً أثبته ولم يقطعه، وأخبرنا أن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومه وإن قلّ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ سادة هذه الأمة وفضلائها، وحملة دينها، ونقلة كتابها، فمن طعن فيهم طعن في كتاب الله تعالى ودينه؛ إذ لم يبلغنا إلا من طريقهم، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، فلئن فارقتم شهر التقوى فإن الله تعالى يجب أن يتقى في كل حين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] قال ابن مسعود رضي الله عنه: " وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر ".
أيها الناس: من نظر في سرعة مرور الأيام، وانقضاء الآجال، وتقلبات الأحوال، وكثرة الجنائز علم أن الدنيا متاع الغرور، وتبين له أن أكثر الناس في غفلة عن مصيرهم، وأنهم يعمرون ما يفارقون، ويهملون ما عليه يفدون (إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الغَرُورُ) [لقمان:33] وفي آية أخرى (وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ) [آل عمران:185] وإنما كانت الدنيا متاع الغرور لأن ما فيها من زينة وزخرف ومتاع يغر الناظرين إليها، فيتوجهون لها، وتتعلق قلوبهم بها، ثم لا بقاء لهم فيها.
إن الله -تعالى- هو خالق البشر، وهو -سبحانه- خالق الزمان، وهو -عز وجل- جعل البشر يعيشون في هذا الزمان بأعمار وآجال قدرها -سبحانه وتعالى-، وهو -سبحانه- من يبارك في أعمار من شاء من عباده فيعملون في الزمن القليل أعمالاً صالحة كثيرة، وتُمحق البركة من أعمار آخرين فلا ينجزون شيئاً رغم أنهم عمروا في الدنيا طويلاً، وهو -سبحانه- المتصرف في الزمان فيمده إذا شاء، ويقصره إذا شاء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الساعة لا تقوم حتى يتقارب الزمان؛ ومن معاني تقارب الزمان سرعة مروره؛ فما تكاد شمس يوم تشرق إلا وتغرب، ولا يهل شهر إلا ويدبر، ولا تبدأ سنة إلا وتنتهي، وهذا المعنى من تقارب الزمان يحسه الناس في زمننا هذا، ويشاهدون سرعة مرور الأيام عن ذي قبل مع أن الساعة هي الساعة، واليوم هو اليوم، والشهر هو الشهر؛ فسبحان من دبر ذلك وقضاه على كيفية لا يدركها العباد، ولا يصلون إلى سببها وإن أحسوا بها.
وقد جاء بيان سرعة انقضاء الزمن في حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعْفَةِ " رواه أحمد.
وأهل النار يستبطئون القيامة في الدنيا، ويؤثرون العاجلة على الآخرة، ولكن الموعد قريب وإن رأوه هم بعيداً (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج:6-7] ويوم القيامة ينسون أعمارهم المديدة التي قضوها في الدنيا بملذاتها وشهواتها؛ فتارة يظنون أنهم ما عاشوا في الدنيا إلا عشر ليال (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا) [طه:103] ومنهم آخرون يظنون أنهم ما عاشوا إلا يوماً واحداً فقط (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) [طه:104] وتارة أخرى عندهم يقين أنهم عاشوا في الدنيا يوماً أو بعض يوم فقط (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العَادِّينَ) [المؤمنون:113] ويقسم آخرون منهم أن أعمارهم في الدنيا كانت ساعة فقط (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) [الرُّوم:55].
وقد أخبر الله تعالى أن أهل الدنيا إذا رأوا الساعة فكأنما عاشوا بعض يوم فقط (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النَّازعات:46] وأخبر سبحانه أنهم يوم القيامة كأنما عاشوا في الدنيا ساعة واحدة للتعارف (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) [يونس:45]، وخاطب الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ) [الأحقاف:35].
فهل وعينا عن الله تعالى بلاغه لما بلغنا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا ليست مستقراً لنا، وأن الأيام تمضي بنا سريعاً إلى قبورنا، ثم إلى دار القرار التي فيها السعادة الأبدية، أو الشقاوة الأبدية.
وكذلك أهل الجنة الذي عُمِّروا في الدنيا طويلاً، وعانوا شظف المعيشة فيها، وكابدوا شدة أيامها، وأظموا نهارهم بالصيام، وأسهروا ليلهم بالقيام - ينسون ذلك كله عند أول نعيم يشاهدونه في الجنة؛ كما في حديث أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا من أَهْلِ النَّارِ يوم الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يا ابن آدَمَ هل رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فيقول: لَا والله يا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الناس بُؤْسًا في الدُّنْيَا من أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الْجَنَّةِ فَيُقَالُ له: يا ابن آدَمَ هل رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فيقول: لَا والله يا رَبِّ ما مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ولا رأيت شِدَّةً قَطُّ " رواه مسلم.
وإذا كان الأمر كذلك فإن العاقل الحازم لا يغفل عن ذلك، ولا يضيع عمره فيما لا يفيده، ويتزود من الأعمال الصالحة ما يكون ذخراً له بعد مماته؛ فإن هول المُطَّلع شديد، وإن الحساب عسير، وإن كتاب العبد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزَّلزلة:7-8].
جاء عن أبي ذر -رضي الله تعالى- عنه أنه أسند ظهره إلى الكعبة فقال: " يا أيها الناس هلموا إلى أخ ناصح شفيق، فاكتنفه الناس ثم قال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس كان يأخذ من الزاد ما يصلحه؟ السفرُ سفرُ الآخرة فتزودوا ما يصلحكم، فقام إليه رجل من أهل الكوفة فقال: وما الذي يصلحنا؟ قال: أحججْ حجة لعظائم الأمور، وصم يوماً شديداً حره للنشور، وصل ركعتين في سواد الليل لظلمة القبور، وكلمة خيرٍ تقولها، وكلمة شر تسكت عنها، وصدقة منك على مسكين؛ لعلك تنجو من يوم عسير، اجعل الدنيا مجلسين: مجلساً في طلب الحلال ومجلساً في طلب الآخرة، ثم الثالث يضر ولا ينفع، اجعل المال درهمين: درهماً تنفقه على عيالك ودرهماً تقدمه لآخرتك ثم الثالث يضر ولا ينفع، ثم قال: أوه، قيل له: ما ذاك؟ قال: قتلني طول الأمل، إنما الدنيا ساعتان: ساعة ماضية وساعة باقية؛ فأما الماضية فذهبت لذتها، وأما الباقية فهي تخدعك حتى يقل صبرك فيها تأخذ حلالها وحرامها؛ فإن أخذتها بحلالها فأنت أنت، وإن أخذتها بحرامها فما أدري ما أصف من سوء حالك، والله ولي نعمك ومعروفك " رواه الفاكهي في أخبار مكة.
وجاءه رجل من أهل خراسان إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقال:" يا أبا عبد الله، قصدتك من خراسان أسألك عن مسألة، قال له: سل، قال: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة ".
جعلنا الله تعالى ووالدينا وآلنا وأحبابنا من أهلها، ووفقنا للعمل الذي يرضاه عنا، إنه سميع قريب.
وأقول ما تسمعون واستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده فله الحمد في الآخرة والأُولى، ونستغفره لذنوبنا فمن يغفر الذنوب إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتزودوا من الأعمال الصالحة ما تجدونه أمامكم (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ) [آل عمران:30].
أيها المسلمون: اجعلوا أيامكم ولياليكم كلها كأيام رمضان ولياليه في تعلق القلوب بالله تعالى ودعائه وذكره، والمحافظة على الفرائض وإتباعها بالنوافل، وملازمة القرآن تلاوة وحفظاً وتدبراً وعملاً، ولا تنقضوا عهدكم مع ربكم سبحانه؛ فإنه تعالى ينهاكم عن ذلك (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) [النحل:92].
قال مكحول رحمه الله تعالى: " أربع من كن فيه كن له، وثلاث من كن فيه كن عليه فالأربع اللاتي له: الشكر والإيمان والدعاء والاستغفار قال الله تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ) [النساء:147] وقال تعالى:(وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33] وقال تعالى:(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) [الفرقان:77] وأما الثلاث اللاتي عليه: فالمكر والبغي والنكث قال الله تعالى:(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) [الفتح:10] وقال تعالى:(وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر:43] وقال تعالى: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) [يونس:23].
وكان الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى كثير الصيام حتى بعدما كبر سنه، وضعفت قوته، فقيل له: إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أُعده لسفر طويل والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه.
فأكثروا -عباد الله- من نوافل العبادات ما يكون زاداً لكم في معادكم، ولا تنقضوا عهدكم مع ربكم (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].
وصلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم