اقتباس
من مقاصد الزواج وحِكَمِه وفوائده: أن في الزواج صيانة للزوجين، وإعفافا لهما من الوقوع في الفواحش والمحرمات التي تفسد المجتمعات، وتهدم أخلاقها، وتذهب مروءتها، وقد جاء في الحديث...
لقد جاءت شريعة الإسلام بكل الوسائل التي تحمي فطرة المسلم ودينه وسلوكه، بل ووجهته إلى ما يرتقي به ويسمو معه؛ فشرَّع الشرائع وبيَّن الأحكام التي تبقيه على فطرته ونقائه، ومن تلك الوسائل والسنن الربانية؛ سنة الزواج والعلاقة الفطرية الخالدة بين الرجل والمرأة؛ حيث دعا إليها وفرضها وجلى ثمارها ومقاصدها؛ إنها صلة النفس بالنفس في أوثق صورها وأبهى مظاهرها؛ حيث تحل السكينة ويتأتى الاستقرار والراحة، في البيت المعمور بالمودة الخالصة والرحمة، قال تعالى في كتابه العزيز: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم:21].
والزواج في الإسلام؛ هو الحصن الحصين للعفة والطهارة؛ فبه تُحمى المجتمعات من الرذائل والفواحش، وبه تخمد نيران الشهوات المحرمة، ولذلك حث الشرع الحنيف على الزواج، كما جاء في قوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)[النساء:3]، وقد أوجب النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل من قدر عليه؛ فقال: "يا معشرَ الشَّبَابِ، مَنِ استطاع مِنْكُمُ الباءةَ؛ فليتزوج؛ فإنَّهُ أغضُّ للبصرِ، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطيع فعليهِ بالصَّومِ؛ فإنَّهُ له وجَاء"(صحيح مسلم).
وحكم الزواج -أيها الأخيار- يختلف باختلاف الأشخاص من حيث القدرة المالية والبدنية وتحمل المسؤولية، وقد ذكر أهل العلم أن الزواج تدور عليه الأحكام الخمسة؛ فتارة: يأخذ حكم الوجوب في حق من خاف على نفسه الوقوع في المحظور إن ترك النكاح؛ فهذا يجب عليه الزواج في قول عامة الفقهاء؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه، وصونها عن الحرام، ولا فرق في هذه الحالة بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه؛ لأن الله وعد طالب العفاف أن يغنيه ويكفيه، قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[النور: 32].
وتارة: يكون مستحباً في حال وجود الشهوة مع عدم خوف المرء من الوقوع في الحرام؛ ومن كانت هذه حاله استحب له الزواج؛ لاشتماله على مصالح كثيرة، بل ذكر العلماء أنَّ الاشتِغال به وتحصيلِه مقدم على نوافل العبادات، وهو ظاهر قول الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- وفِعلهم، وبه قال جمهور علماء الأمة، يقول ابن مسعود -رضِي الله عنه-: "لو لم يبقَ من أجَلِي إلا عشرة أيَّام، وأعلمُ أنِّي أموتُ في آخِرها لتزوَّجت مخافةَ الفتنة".
وتارة: يكون الزواج مباحاً في حال عدم وجود الشهوة والميل إليه؛ الكبير والعنين، وقد يكون مكروهاً في هذه الحالة؛ لأن فيه تفويت لغرض صحيح من أغراض النكاح، وهو حصول العفاف، وتنتفي الكراهة بموافقتها على ذلك دون إرغامها عليه.
ومرة: يأخذ الزوج حكم التحريم والمنع في حق المسلم المقيم في دار كفار حربيين؛ حماية لذريته من الخطر واستيلاء الكفار عليهم.
وقد أجمع جمهور أهل العلم بأن المرأة مساوية للرجل في هذه الأحكام، ومتى ما تقدم الرجال لخطبتها؛ فإنه يرد في حقها التفصيل في الحكم من الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة.
ولم يوجب الإسلام الزواج على الميسورين؛ إلا لعظيم مكانته وعلو منزلته؛ وحسب الزواج أهمية ورفعة؛ أن به يستكمل العبد نصف دينه، وقد جاء في حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَزوَّجَ العَبدُ فَقَدِ استَكمَلَ نِصفَ الدينِ؛ فَليتَّقِ الله فِي النصفِ الثاني"(أخرجه البيهقي وحسنه الألباني).
ولم ينال الزواج تلك المنزلة إلا لما فيه من مقاصد عظيمة وأسرار جليلة؛ فمن مقاصد الزواج وحِكَمِه وفوائده، ما يلي:
أن في الزواج صيانة للزوجين، وإعفافاً لهما من الوقوع في الفواحش والمحرمات التي تفسد المجتمعات وتهدم أخلاقها وتذهب مروءتها، فقد جاء في الحديث، أن النبي -صلوات ربي وسلامه عليه- قال: "يا مَعْشَرَ الشباب، مَن استطاع الباءة فليتزوَّج؛ فإنَّه أغضُّ للبصَر وأحصَنُ للفَرْجِ، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وجاء"(رواه البخاري ومسلم)
ومن المعلوم بالضرورة أن غريزة الشهرة والميل للجنس الآخر فطرة وجبلة؛ جُبِلَ عليها البشر، ولو لم يشرع الزواج القائم على الكتاب والسنة؛ لكان في ذلك مشقة وعنت على العباد.
ومن مقاصد الزواج وحِكمه: استمتاع الزوجين ببعضهما وتحصين للفرج وتمكين حقوق وحسن عشرة وقوامة وطعام وشراب ومسكن بالنسبة للمرأة، قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)[النساء: 34]، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "ولهنَّ عليكُم رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف"(رواه مسلم).
وكذلك: تكفل المرأة بالرجل؛ فتحفظ بيته وترعى أولاده وتحفظ ماله؛ قال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم -: "والمرأة راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم"(رواه مسلم).
ومن المقاصد -أيضا-: حصول الزوجين على النفسية والسكن والمودة والرحمة، قال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)[الروم:21]، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)[الأعراف:189]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: ليألفها ويسكن بها".
ومن الحِكم والمقاصد -كذلك-: أن الزواج سبب لارتزاق الأولاد الذين هم زينة الحياة وجنتها، قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الكهف: 46].
إضافة إلى ما في نعمة الولد من مصالح كثيرة للوالدين؛ فبهم تتم السعادة الدنيوية، وينال الوالدان منهما الدعاء بعد موتهما، قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إذا مات الإنسان انقَطَعَ عنه عمَلُه إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(مسلم).
ومن حِكم الزواج: الترفع ببني الإنسان عن الحياة البهيمية، وبقاء النوع الإنساني على وجهٍ سليم، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً )[النساء: 1].
كما أن من أعظم مقاصد الزواج وحِكمه: تكثير عدد المسلمين، قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "تزوَّجُوا الودود الولود؛ فإنِّي مكاثرٌ بكم الأمم"(رواه أبو داود).
ومن مقاصد الزواج: تقوية اللحمة والألفة بين أفراد الأسر المسلمة؛ فكم عاشت كثير من الأسر متباعدة، لا تعرف إحداها الأخرى؛ فحصل بالزواج التعارف والتآلف والاتصال، ولذا جعَل الله الصِهر قسيما للنسب، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا)[الفرقان:54].
خطباؤنا الكرام: وضعنا بين أيديكم هذه المقدمة عن حقيقة الزواج وحكمه ومكانته ومقاصده، لتكون لحث الناس على الزواج الموجب للعفة والطهر والنقاء والفضيلة، والباعث على الألفة والمودة بين أفراد الأسر والمجتمعات، والمانع من ارتكاب الفواحش، وتدني الأخلاق والقيم، عل تذكيركم بهذه السنة الربانية تعين على حماية المجتمعات من الرذيلة وحراستها من مساقط الردى؛ سائلا الله -تعالى- أن يوفقنا وإياكم إلى كل فضيلة، وأن يصرف قلوبنا عن منكر ورذيلة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم