اقتباس
إن من دلائل قَبول الطاعةِ: الطاعة بعدها، والحسنة تنادي أختها، والموفَّق من حافَظ على حسناته من الضياع، واستمَر على الطاعات حتى يأتيه الموت وهو على أحسن حال؛ من الإنابة والإقبال على الله؛ لذا كان أهل الطاعات أرق الناس قلوبًا، وأكثرهم صلاحًا، وأعظمهم فلاحًا، وأسرَعهم نَجاحًا، وأهل المعاصي أغلظ الناس قلوبًا، وأشدهم فسادًا، وأعظمهم عذابًا في الدنيا وفي الآخرة، والصوم عبادة من العبادات..
"تقبل الله منا ومنكم".. أيام قلائل ويعطر هذا الدعاء الآفاق، ويملأ الأجواء.. إنه شعار المسلمين وتحيتهم في أيام عيدهم.. وإن دل ترديد المسلمين هذا الدعاء.. عقب فريضتين من فرائض الإسلام (الصيام والحج). إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية قبول العمل..
وليس هذا بغريب.. إن قبول العمل هو غاية كل مسلم وهو أساس الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة. وللقبول أسباب ودواعٍ حري بكل مسلم أن يحرص عليها، وما أجمل أن يكون دعاؤه دائماً: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
معلوم أن الزارع يزرع ليحصد، وأن الطالب يذاكر لينجح، فماذا سيكون الحال إذا ذهب الزارع إلى حقله فإذا هو خراب يباب؟! ماذا سيكون شعوره حينئذ؟! إنه سيحزن حزنا شديداً، بل ربما ذهب عقله من شدة المفاجأة ووقع البلاء، وهكذا يكون شعور الطالب إذا ذاكر واجتهد وسهر، ثم إذا به آخر العام يجد نفسه ويطالع اسمه في كشوف الراسبين!
ولا ينفك المرء عن عجب من تلك الدعوات المباركات والكلمات النيرات، التي تضيء طريق أهل الإيمان، يقول ربنا الكريم على لسان عبده ونبيه إبراهيم –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 127]، هذه دعوة إمام الحنفاء، وقدوة الموحدين، وخليل الرحمن، الذي وصفه ربنا- سبحانه- بأنه جمع خصال الخير كلّها: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 120].
وهذه الدعوة المباركة جمعت عدة مطالب عظيمة لا غنى عنها للعبد في أمور دينه ودنياه، منها أهمية سؤال اللَّه –تعالى- القبول في الأعمال، والأقوال، فقد قال إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام-: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
إن مدار الأعمال الصالحة على القبول الذي يقوم على الإخلاص للَّه تعالى، والاتباع لما جاء به الشرع المطهر. ولذا ينبغي للعبد أن يكون في حال عبادته لربه ودعائه، خائفاً راجياً، كجناحي الطائر، فلا يغلّب الخوف، فيقع في القنوط، ولا يغلب الرجاء، فيقع في الغرور، والأمن من مكر اللَّه تعالى.
ومن أجلّ ما تبرز فيه هذه القضية قبول الأعمال من الله – جلّ وعلا -؛ فذاك ما تعلّقت به همم الصالحين؛ إذ هو مقصود العمل وغايتُه التي لأجلها نصبوا واجتهدوا. وهو ما كان يلهج بطلبه الخليل وابنه إسماعيل – عليهما السلام –حين كانا يرفعان قواعد الكعبة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127]، وهو ما كانت – أيضاً – تسأله امرأة عمران حين نذرت حملها خادماً لبيت الله المقدس (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران: 35].
يقول علي – رضي الله عنه -: "كُونُوا لِقَبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ اهْتِمَامًا بِالْعَمَلِ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يُقْبَلَ عَمَلٌ إِلَّا مَعَ التَّقْوَى. وَكَيْفَ يَقِلُّ عَمَلٌ يُتَقَبَّلُ؟ كَانُوا بِاللَّهِ عَالِمِينَ وِلِعِبَادِهِ نَاصِحِينَ"، ويقول ابن دينار: "الخوف على العمل أن لا يتقبل أشدُّ من العمل"، وقال فضالة بن عبيد: "لأن أكون أعلمَ أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحبُّ إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27]".
فبالقبول المسبوقِ برحمة الله تكفر السيئات، وتمحى الخطايا، وترفع الدرجات، وتكون الزلفى، (ولكلٍّ درجات مما عملوا) [الأنعام: 132].
إن مما انعقد عليه اعتقاد السلف الصالح أن القبول فضل من الله – سبحانه – يفيضه على من سبقت له منه الحسنى؛ إذ الطاعة لا توجب بذاتها لصاحبها ثواباً على الله، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ " قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا" (رواه البخاري ومسلم).
وهذا القبول أمر غيبي قد أخفاه الله؛ رحمةً بعباده؛ كيما يجدوا ويجتهدوا في القرب وإتقانها، ويخشوا ردَّها؛ فلا يخالجَهم إعجابٌ واتكالٌ بقبولٍ يُقعِدُهم عن تطلب الكمال وبذل المزيد. وقد كان هذا منهجَ السلف الصالح، يقول عبد العزيز بن أبي رواد: "أدركتُهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمُّ: أيقبل منهم أم لا؟".
ومع أن القبول أمر غيبي، إلا أن له علاماتٍ يُظَنَّ من خلالها- دون جزم - القبولُ والردُّ. ومن تلك العلامات التي ذكرها أهل العلم وقام عليها الدليل: الرضا عن الله – سبحانه -؛ فلا يُعترض على حكمه أو يُتبرم من قدره، فالقبول من رضا الله عن العبد، ولا يرضى اللهُ إلا على من رضي عنه، وهم أهل الجنة الذي يقول عنهم: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة: 119].
ومن العلامات: التوفيق لعمل صالح مستقبَل، وذلك من زيادة الحسن والهدى لمن عمل الصالحات، كما قال الله – تعالى-: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) [الشورى: 23]، وقال: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [مريم: 76].
وسئل الحسن: ما علامة الحجّ المبرور؟ فقال: أن يرجع العبد زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة. ومن علامات القبول: استجابة الدعاء، كما أجاب الله دعاء أصحاب الغار حين توسلوا إليه بصالح أعمالهم.
ومن علامات قبول العمل الصالح: راحة النفس وطيب العيش، كما قال الله – سبحانه -: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97]، أي: في الدنيا،(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]. ومن علامات القبول: حُبُّ الناس، ففي الصحيحين يقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ"، والقبول: المودة. ومن علامات القبول – معشر الأحبة -: استقلال العمل وصغره في عين صاحبه واستشعار تقصيره، كما قال – تعالى -: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:60 61].
يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: "عَلَامَةُ قَبُولِ عَمَلِك احْتِقَارُهُ وَاسْتِقْلَالُهُ، وَصِغَرُهُ فِي قَلْبِكَ؛ حَتَّى إِنَّ الْعَارِفَ لَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عُقَيْبَ طَاعَتِهِ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ثَلَاثًا. وَأَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ الْحَجِّ. وَمَدَحَهُمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَشَرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقَيْبَ الطُّهُورِ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ. فَمَنْ شَهِدَ وَاجِبَ رَبِّهِ وَمِقْدَارَ عَمَلِهِ وَعَيْبَ نَفْسِهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اسْتِغْفَارِ رَبِّهِ مِنْهُ، وَاحْتِقَارِهِ إِيَّاهُ، وَاسْتِصْغَارِهِ " [مدارج السالكين 2/ 62].
إن ألزم ما يجب الحرص عليه والعناية به معرفةُ شروط قبول العمل التي بها تدرك أسباب الرد؛ فيجتهد المؤمن في تحصيل الشروط، ويحذر أسباب الرد. وشروط قبول العمل ثلاثة: الأول: الإيمان: يقول الله – تعالى -: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه) [التوبة: 54]، وسألت عائشة – رضي الله عنها – رسول الله – صلى الله عليه وسلم -فقالت: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: "لَا يَنْفَعُهُ؛ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" (رواه مسلم).
والثاني: الإخلاص لله المنافي للرياء والعجب: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ " (رواه مسلم)، وذلك هو العمل الطيب الذي لا يقبل الله إلا إياه، كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" (رواه مسلم).
والثالث: موافقة العمل لهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" (رواه مسلم)؛ ومن هنا وجب على المؤمن ألا يتقرب بقربة إلا بعد تحققه من موافقتها للشرع المطهر.
إن المؤمن مع شدة إقباله على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القُربات، إلا أنه مشفِق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرَم من القبُول؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون: 60]: أهم الذين يشربون الخمر ويسرِقون؟! قال: "لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدَّقون، وهم يخافون ألاَّ يُقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات" (أخرجه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني).
إن مواسم الطاعات تستَمر مع العبد في حياته كلها، ولا تنقضي حتى يدخل العبدُ قبره، فهو ينتقِل من شهر رمضان إلى موسم الحج، ومع كل ذلك العيدان وبينهما الصلوات والخلوات!
قيل لبِشْر الحافي - رحمه الله -: إن قومًا يتعبَّدون ويجتهدون في رمضان، فقال: "بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقًّا إلا في شهر رمضان"، إن الصالح الذي يتعبَّد ويجتهد السنة كلها.
الذي وفِّق للقبُول يُهنَّأ، والمحروم يُعزَّى: يقول علي -رضي الله عنه-: "ليت شِعري، من المقبول فنُهنِّيَه، ومن المحروم فنعزيَه"! ويقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: أيها المقبول هنيئًا لك، أيها المردود جبَر الله مصيبتكَ".
إن التوفيق للعمل الصالح نعمة عظيمة: ولكنها لا تتِم إلا بنعمة أخرى أعظم منها، وهي نعمة القبول.
وإذا علِم العبد أن كثيرًا من الأعمال تردُّ على صاحبها لأسباب كثيرة، كان أهم ما يُهِمه معرفة أسباب القبول، فإذا وجدها في نفسه فليحمَد الله، وليعمل على الثبات على الاستمرار عليها، وإن لم يجدها فليكن أول اهتمامه أن يستجلِب هذه الأسباب، عِلمًا بأن الرجوع إلى الذنب علامة مقت وخُسران، قال يحيى بن معاذ: من استغفَر بلسانه وقلبُه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القَبول في وجهه مسدود.
المؤمنون يستصغرون أعمالهم: ولا يرونها شيئًا؛ حتى لا يعجبوا بها، ولا يُصيبهم الغرور فيحبط أجرهم، ويكسلوا عن الأعمال الصالحة، ومما يُعين على استصغار العمل: معرفة الله تعالى، ورؤية نعمه، وتذكُّر الذنوب والتقصير، وقيل: لأن تبِيت نائمًا، وتصبح نادمًا خيرٌ لك من أن تبيت قائمًا، وتُصبح معجَبًا، والله تعالى يقول لنبيه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر: 1 - 6]، فمن معاني الآية ما قاله الحسن البصري: لا تَمنُن بعملك على ربك تستكثِره.
حبك للطاعة دليل قبُولها: أن يحبِّب الله في قلبك الطاعة، فتُحبها وتأنس بها، وتطمئن إليها؛ قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]، وبُغضك للمعصية من علامات القُرب من الله وقَبول طاعته؛ اللهم حبِّب إليَّ الإيمان، وزيِّنه في قلبي، وكرِّه إليَّ الكفر والفسوق والعصيان، واجعلني من الراشدين.
وإذا قبِلت طاعتك، يسَّر لك أخرى لم تكن في الحسبان، بل وأبعدك عن معاصيه ولو اقتربت منها؛ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل: 5 - 10].
إن من دليل قَبول الطاعة أن يُحبِّب الله إلى قلبك الصالحين، فتُرافقهم ولا ترافق العصاة والمذنبين، بل يبغِّض إلى قلبك الفاسدين أهل المعاصي (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27 - 29]؛ ولذلك قيل: قل لي مَن تحب، مَن تجالس، مَن تَودّ، أقل لك مَن أنت.
قال عطاء الله السكندري: "إذا أردتَ أن تعرف مقامك عند الله، فانظُر أين أقامك".
والأحرى لقبُول الطاعات ووصول صاحبها لمرضاة الله أن تُختم بالاستغفار، فبعد أن يؤدِّي العبد مناسك الحج (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 199]، ولقد علَّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستغفر الله ثلاثًا دُبر كل صلاة، وأهل القيام بعد قيامهم يختِمون ذلك بالاستغفار في الأسحار (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 18]، وقال: "من لزِم الاستغفار، جعل الله له من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزَقه من حيث لا يحتسب"، وأوصى الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد: 19].
ونعاه إلى أمته بعد حياة عامرة بالجهاد والكفاح والنضال بسورة النصر، يقول فيها: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 1 - 3].
وإن من دلائل قَبول الطاعةِ: الطاعة بعدها، والحسنة تنادي أختها، والموفَّق من حافَظ على حسناته من الضياع، واستمَر على الطاعات حتى يأتيه الموت وهو على أحسن حال؛ من الإنابة والإقبال على الله؛ لذا كان أهل الطاعات أرق الناس قلوبًا، وأكثرهم صلاحًا، وأعظمهم فلاحًا، وأسرَعهم نَجاحًا، وأهل المعاصي أغلظ الناس قلوبًا، وأشدهم فسادًا، وأعظمهم عذابًا في الدنيا وفي الآخرة، والصوم عبادة من العبادات، ورحمة من الرحمات، ونفحة من النفحات، التي تطهِّر القلوب من أدرانها، وتَشفي الأبدان من أمراضها، وتُنقِّي الصدور من أحقادها، وتُجلي النفوس من عُجْبها وبخلها.
ومن أجل تذكير المسلمين بأهمية الحرص على قبول العمل الصالح، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة تبين أهمية قبول العمل الصالح، وعلاماته، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم