اقتباس
وليكن في يقينك أن هذا ليس اختبارك الأوحد، ولست وحدك من تُختبر، بل ما خُلق البشر على وجه هذه الأرض إلا ليُختبروا ويُمتحنوا.. فكلنا هنا ممتحن، ممتحن بالخير تارة وبالشر أخرى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، ممتحنون نحن بأموالنا وأولادنا: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، وممتحنون بما في الدنيا من نعيم وزخرف وزينة وشهوات...
يُحكى ويقال: أن تلميذًا للإمام وكيع بن الجراح كان شديد الحفظ سريع البديهة، وفي أثناء ذهابه إلى وكيع يومًا وقعت عينه على كعب امرأة، فلما جلس بين يدي وكيع ليسرد عليه ما حفظ، إذا به يتلعثم ويضيع منه ما حفظ على غير عادته، وعندها قال له وكيع بفراسة العالم: لعلك قارفت ذنبًا! فخرج التلميذ من عنده وهو يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم فضل *** وفضل الله لا يؤتاه عاص
ولما جلس الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه، أعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه فقال: "إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية"(الداء والدواء، لابن القيم).
وقد اشترط الله -تعالى- ليعلمك شرطًا واحدًا؛ هو التقوى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)[البقرة: 282]، والعكس بالعكس؛ فمن عصى الله نزع منه العلم، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه للخطيئة يعملها"(رواه وكيع في الزهد).
هذه كانت الوصية الأولى للمُقْدمين على الاختبارات: "ترك الذنوب"، أما الثانية، وكان حقها أن تكون الأولى، فهي: تجديد النية في المذاكرة: فلا تكن نيتك شهادة تحصل عليها، أو وظيفة تنالها، أو مكانة تتبوأها، فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله -عز وجل- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها(رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وعن كعب بن مالك أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
واعلم أنه لو خلصت نيتك لوجه الله -تعالى- فهي سعادة الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة"(رواه مسلم).
أما الثالثة: فبذل الطاقة واستفراغ الوسع: فالله -تعالى- أمر مريم في مخاضها أن تهز نخلة لتأكل: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)[مريم: 25]، ويرزق الله -تعالى- الطيور الضعيفة بشرط أن تغدو وتروح، فعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).. فنظِّم وقتك، وأعد دروسك تكرارًا ومرارًا، واستعن بحل اختبارات السنوات السابقة والأسئلة المعدة والتدريبات، وسل غيرك عما لا تعرف... وخذ بكل سبب للحفظ والمذاكرة والتفوق، و"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز"(رواه مسلم).
والرابعة هي: التبرؤ من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته: فإذا أخذت بالأسباب وثابرت وصابرت واستعنت... فتمسكن الآن إلى ربك، وقل: "لا حول إلا حولك، ولا طول إلا طولك، ولا إله غيرك"، واخرج من نفسك إلى ابتغاء عون ربك:
فإن لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كان يكثر أن يقول: "ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء"، وكتب بيده:
"أنا الفقير إلى رب البريات *** أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي *** والخير إن يأتنا من عنده يأتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة *** ولا عن النفس لي دفع المضرات"(مدارج السالكين، لابن القيم).
***
فإن فعلت ما مضى والتزمت به، فاحذروا أمرين:
الأول: الغش: فنبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من غش فليس مني"(رواه مسلم)، والغش عدو العلم؛ فمن عرف أنه في الاختبار سيغش فلن يستذكر دروسه ولن يتعلم، فيخرج إنسانًا جاهلًا؛ مدرسًا جاهلًا أو طبيبًا جاهلًا أو مهندسًا جاهلًا... فيُفسد ولا يُصلح.
والثاني: إياك والسهر الطويل ليلة الاختبار: فإنه إنهاك لعقلك وغالبًا ما سيؤثر على تركيزك داخل "لجنة الاختبار"، بل نم مبكرًا واستيقظ فجرًا وراجع ما حفظت إلى أن يحين موعد اختبارك، ولا تنم بعد الفجر فبئس النومة هي.
***
وليكن في يقينك أن هذا ليس اختبارك الأوحد، ولست وحدك من تُختبر، بل ما خُلق البشر على وجه هذه الأرض إلا ليُختبروا ويُمتحنوا، ولقد قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة قائلًا: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 155]، وقائلًا: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 2-3].
فكلنا هنا ممتحن، ممتحن بالخير تارة وبالشر أخرى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[الأنبياء: 35]، ممتحنون نحن بأموالنا وأولادنا: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)[الأنفال: 28]، وممتحنون بما في الدنيا من نعيم وزخرف وزينة وشهوات، فعن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون"(رواه مسلم)...
فهي دار ابتلاء واختبار وامتحان وفتنة، فأعد لها العدة، وكن يقظًا متشمرًا؛ لا تلهينك إذا اقبلتْ، ولا تجزعنك إذا توالت مصائبها... فكلاهما اختبار لك وامتحان، ثم هي عنا راحلة، أو عنها نحن راحلون.
***
وأخيرًا، دع الاختبارات الدراسية اليوم تُذكِّرك بالاختبار الأعظم غدًا؛ اختبار الآخرة، ومدة الاختبار هناك طويلة: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)[المعارج: 4]، ويكون الاختبار في كتاب واحد فقط؛ هو "صحيفة أعمالك": (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)[الإسراء: 13-14]، وإن لم تعرفه هو كتاب: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)[الكهف:49]، أما نتيجة الاختبار فهي نهائية لا إعادة لها ولا "دور ثان": (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)[آل عمران:185]، فالله خير مسئول أن نكون هنا وهناك من الفائزين.
وهذه بضعة خطب متقنة قد تناولت هذا الأمر من مختلف جوانبه، فلعلها تكون عونًا للطلبة ولآبائهم وأمهاتهم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم