عناصر الخطبة
1/تعدد الامتحانات وتنوعها 2/فوائد الامتحانات 3/الحث على علو الهمة 4/نماذج لهمم السلف في طلب العلم 5/همم الطلاب في الامتحانات.اقتباس
والنووي عاش ٤٥ سنة، خلّف فيها شرح المهذب, والروضة, والرياض, والأذكار, والأربعين النووية, وروائع الأسفار، لا تدري أي فاكهة فيها تطعم!, والسرَخْسي الحنفي أملى كتابه المبسوط من قاع البئر, وابن جرير الطبري المتفنن المشهور أتقن علم العَروض في ليلة، وأصبح عروضيا, والمزني صاحب الشافعي قرأ الرسالة للشافعي سبعين مرة، ويقال: خمسمائة مرة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله شرح قلوب عباده للإيمان، وقذف فيها الإحسان، وأرشدهم إلى سبل الجنان, نحمده ونشكره ومن كل ذنب نستغفره, ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه, وصلوا على رسولكم الكريم في هذا اليوم المبارك؛ فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "أولى الناسِ بي يوم القيامة، أكثرُهم عليَّ صلاة".
يا من هُدِيتمْ بالنبيِّ محَمّدٍ *** سيروا بهدي نبيّكم تعظيمًا
وإذا سمعتُم ذِكْرَه في مجلسٍ *** صلُّوا عليه وسلموا تسليمًا
فصلى الله وسلم وبارك على خير نبي، وأعظم رسول ما غردت الأطيار، وتعاقب الليل والنهار.
أيها الإخوة الكرام: تفكر بعضهم في الامتحان؛ إلى متى سنظل نمتحن؟! وإلى أين الطريق والمصير؟! وفي كل مرحلة زمنية امتحان، ونحن في الحياة امتحان, ونجاحنا امتحان، وإنجازاتنا من خلال امتحانات, والنوائب امتحانات, وفي الآخرة امتحان شديد، ومرحلة صعبة، لا تيسر إلا على من يسرها الله عليه!.
والحقيقة أن تلك تساؤلات في النفس, يبحث لها عن أجوبة!, فتدخل الامتحانات هذه الأيام بحلوها ومرها، وضيقها وسعتها، وشدتها ورخائها؛ فتنقدح في الذهن خواطر، من الضروري التماس جواب لها, لماذا نمتحن كل سنة في مجالات الدراسة والعمل؟!
والجواب بسهولة؛ لأننا نبحث عن النجاح والتفوق، وحُسن العيش، وذلك لا يحصل بدون كد ومتاعب.
تريدين لقيام المعالي رخيصة *** ولابد دون الشهد من إبر النحلِ
والحياة إنما وجدت للامتحان، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك: 2], فما فيها من بلايا وأعباء هو مقدمات الامتحان الأكبر، واللقاء الأعظم، فاتعظوا بهذه الأشياء الصغيرة؛ لتعدوا لأمور عظيمة.
ولذلك وإن أقضّت الامتحانات وعكرت، ففيها محاسن وفوائد؛ ومن ذلك:
تعلمُ الجد وارتقاء الهمة؛ فتشتعل النفوس في المذاكرة والمراجعة.
ومنها: صون الوقت من الضياع، ومطاردة الساعات، والضن باللحظات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس؛ الصحة والفراغ".
ومنها: حفظُ العلم وتدوينه, وفي ذلك أمان من الجهل والضياع والنسيان.
ومنها: الظفر بالنجاح، وبلوغ المعالي, واستطعام حلاوة الصبر، وتربية النفس على الاحتمال.
ومنها: تجنب اللهو واللعب, واقتفاء الأمور الجادة؛ ولذلك يقلُّ الشغب ويهدأ الشباب، وينصرفون إلى معالي الأمور, وفي الحديث الصحيح: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله يحب معالي الأمور, ويكره سفسافها".
ومنها: اعتياد القراءة وإدراك فضل العلم وروعته وجماله، وأنك ولجتَ مدرسة (اقرأ) من جديد, وتعرفت على كنوز العلم ومكنوناته.
ومنها: إخراج عباقرة وجادين؛ كما قال العلامة الطنطاوى -رحمه الله-: "لو أن همم أبنائنا في الامتحانات تبقى معهم؛ لأخرجنا عالماً، ليس كل شهر، ولكن كل سنة".
فتتوالد هممٌ عجيبة، وتشتعل عزمات نادرة، تأخذك إلى ربيع السلف العلمي، ووثَبَاتهم الراقية, في الإبداع الأسطوري؛ فينكسر الصخر، ويتحطم المستحيل، وتُزال الجسور، وتُخترقُ التحديات.
إذا غامرتَ في شرف مَرومٍ *** فلا تقنعْ بما دون النجومِ
فطعمُ الموت في أمر حقيرٍ *** كطعم الموت في أمر عظيمِ
فلقد صمّم شباب الامتحانات وعزموا وقرروا، أن لا يكون أحدهم ككسير أو مهزوم, قال الإمام يحي بن أبي كثير -رحمه الله-: "لا يُستطاع العلمُ براحة الجسد", فغداً اختباره، وموطئ كشفه، ومنتهى كرامته أو هوانه.
ومن لطيف حِكم الطفولة المدرسية؛ "عند الامتحان يُكرم المرء أو يهان", ومن كرامة بعضهم امتطاء السهر، وقلة الأكل، وهجران النوم، وديمة القراءة، وصنع الملخصات، وعجلة الحفظ الخارقة، والضن بالساعات، فيقرأ إلى ما لا نهاية، فيثمر الأعاجيب، ويفرز الثمار النادرة، بحيث لو صُرفت إلى تحصيله الثقافي في الحياة لأخرجت الأوطان علماء أجلة، وحفاظا أئمة، ولكن هيهات، هيهات ما بين جاد؛ جعل العلم نصب عينيه، وجاد آخر؛ همه شهادة أيام معدودات، ووظيفة غايته منها لقيمات.
فالهمةَ الهمةَ يا شبابنا! تأملوا تاريخكم، وأعلام دينكم، كيف بزغوا وتفوقوا، وأبهروا العالم الغربي بمصنفاتهم, وما كان لعباقرة الغرب كأديسون وأنشتاين وغاليليو التفوق والبروز؛ لولا الهمة والإخلاص للفكرة العلمية، واتكاء بعضهم على منجزات حضارتنا, وهاهم أبناؤنا مبتعثون خارج البلاد، ويسجلون براءات علمية، وتستفيد الجامعات من عقولهم المهاجرة، وهممهم الساطعة, وبرغم كل ذلك، إلا أن الفرصة مواتية، والمنائر حاضرة، في أن يستشعر شبابنا الهم، ويجعلوا من تلكم الهمم مشاعلَ حياة دائمة، علما وفقها, وفكرا واطلاعا وإنجازا؛ فإن الأمة أحوج ما تكون إلى الشباب الصواعق، والفتيان النوابغ، والفرسان العباقر, فرب همةٍ أيقظت أمة!.
وانظروا إلى همم الاسلاف؛ كالإمام البخاري -رحمه الله-، يستيقظ في الليلة الواحدة قرابة ٢٠ مرة؛ ليصنف لنا الصحيح الذهبي العجيب, والإمام أحمد يحمل في الكِبَر المحبرة، ويقول: "مع المحبرة إلى المقبرة", وأنتج أضخم وأجل مسند في الدنيا, وابن عقيل الحنبلي, يردد: "إني لا يحل لي أن أضيّع ساعة من عمري", وصنف كتابه (الفنون) في ٨٠٠ مجلدة تقريبا, ولا يعلم مثله في بابه وتعداده.
والإمام ابن تيمية -رحمه الله-, المجدد الكبير، والعبقري النادر، يكتب في يوم واحد، ما يكتبه ناسخ في جمعة أي أسبوع, وأثمر تراثا ذهبيا نادرا, والنووي عاش ٤٥ سنة، خلّف فيها شرح المهذب, والروضة, والرياض, والأذكار, والأربعين النووية, وروائع الأسفار، لا تدري أي فاكهة فيها تطعم!, والسرَخْسي الحنفي أملى كتابه المبسوط من قاع البئر, وابن جرير الطبري المتفنن المشهور أتقن علم العَروض في ليلة، وأصبح عروضيا, والمزني صاحب الشافعي قرأ الرسالة للشافعي سبعين مرة، ويقال: خمسمائة مرة, وغير ذلك من النماذج الرفيعة، تعلموا منهم يا شباب، واشمخوا بتاريخهم, واقبسوا من جدهم.
فاللهم أصلح ضعفَنا، وقوِ هممنا في طاعتك؛ إنك على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية:
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الفضلاء: كذا فلتكن الهمم والعزائم، وكذا من أراد أمجاد الحياة، والتميز فيها, ولأبنائنا في امتحانات هذا العصر شيء عجيب أيضا، حري بهم أن يستثمر مثل ذلك، ومنه:
قراءة مئات الصفحات في ليلة واحدة.
حفظ عشرات الصفحات الصعبة في وقت وجيز.
تكرار الكتاب أو المذكرة مرات عديدة؛ حتى ترسخ وتستسهل.
إحراز درجات مثالية مع أعمال سنة متراجعة.
تحول المقصّر إلى أسد هصور؛ يلتهم المذكرات التهاما، ويخرج بعجائب.
استغلال الأوقات والبخل بذهابها في لهو وغفلة.
فيا صانع الهمة في الامتحانات: وطنك في انتظارك، وعقلك في نشاطك، وأمتك ترجو عطاءك، ومستقبلك يستشرفُ لك، فلا تبخل أو تقصر، فالهمم حدائق المنن، ومستودع الفضائل والنعم، والله يؤتي فضله من يشاء.
وليكن همك الدنيوي طريقا إلى همك الأخروي؛ فتزداد نوراً وصلاحًا.
وصلوا وسلموا -يا أخيار- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم