اقتباس
وقد يغيب عن الأمة من لا تتوفر فيه شروط الاجتهاد في عصر من العصور نتيجة ضعفها وانشغال أبنائها بالمفضول عن الفاضل وبالمهم عن الأهم وبعلوم الدنيا عن علوم الشريعة الغراء؛ ففي هذا الحال أجاز أهل...
لقد جاءت شريعة الإسلام شاملة جامعة مانعة؛ فراعت جوانب الحياة البشرية، وسمَتْ بها إلى الحياة الأخروية؛ فأصبحت بحمد الله دليلًا للحائرين ومنارًا للسائرين وريًّا للظامئين. ولضمان بقاء هذا الخير العظيم والنور العميم؛ تولى الله -العظيم- حفظ هذه الشريعة الغراء؛ فجعل لها أسساً رصينة وقواعد متينة، لا تميد ولا تتزعزع، ولطالما أحدق الأعداء بالأبصار، ورموها بالسهام، ورامُوا الإفساد فيها، وأطالوا الشقاق والعناد لأتباعها، اللذين هم، كما قيل:
كناطحٍ صخرةً يومًا ليفلِقَها****فلم يضِرْها وأَوْهى قَرْنَه الوَعِلُ
وما ذاك إلا لما جعل الله من الأسباب، والمعينة على حفظها والمثبتة لها، كيف لا؟ وقد تكفل الله بحفظ كتابه، وهو مصدرها الأول، ومَعِينها الأمثل، كما حفظ السنة النبوية والآثار المروية؛ فهي المصدر الذي لا ينضب، والمَعين الذي لا يعطب، ألا وإن من أهم تلك الأسباب: تعاقب العلماء؛ أئمة الاجتهاد والفتيا؛ فهم نجوم السماء، وقناديل الظلماء، يزيل الله بهم الشُّبَه، ويحفظ بهم الدين، ويَهدي بهم من شاء من عباده إلى الصراط المستقيم، بدءًا بالصحب الكرام، أطهر الناس قلوبا، وأعمقهم فكرًا، وأزكاهم نفوسا، وأكثرهم علمًا وأخلصهم عملًا.
ثم تتابعت بعدهم سلاسل الذهب، وأئمة العلوم والخُلق والأدب، من التابعين الكرام، ومن تبعهم من الأعلام؛ فاقتفوا الأثر، واتبعوا سنة خير البشر، وأظهروا العلم، ونشروا الخير؛ فازدهر العلم وانتشر، وعلا أهله بما حفظوه من الدرر. ومن أهم الأسباب؛ ضبط حدود الدين وحفظ قواعده، ورسم طريقة الناظرين فيه بالاجتهاد، وبيان حد العالم الأهل لذلك، الذي يكون -في الجملة- بمنزلة النبي في البيان عن الشريعة الخاتمة.
وقد قدر السلف -رضوان الله عليهم- كلمة الاجتهاد؛ حيث وضعوا لها الحدود، ورسموا لها الضوابط، وفهموا معناها الحقيقي الذي يستفاد منها؛ فلم يدعيها؛ إلا من كان أهل لها؛ فحرصوا على الاتباع دون الابتداع، وتخلية النفس من الهوى، وجعلوا لبلوغ مرتبة الاجتهاد والفتيا شروطا وحدودا، وهي على النحو التالي: أولا: الإسلام؛ وهذا شرط بديهي وضروري، ولذلك لم يذكره كثير من الأصوليين؛ فلا يعتد بكلام الكافر، على افتراض بلوغه رتبة الاجتهاد، وإذا كنا لا نقبل بفتوى الفاسق واجتهاده، كما سيأتي معنا، فإنا لا نقبل فتوى الكافر واجتهاده من باب أولى.
ثانيا: العقل: فلا يعتد بكلام المجنون؛ عدا ما قاله وقرره قبل ذلك إن تحقق فيه بقية الشروط، ولو كان جنونه متقطعا يصحو تارة، ويذهب عقله تارة؛ فقد رأى الفقهاء؛ أنه لا يعول على كلامه، لعدم الثقة به، بسبب اضطراب تمييزه وعدم اضطراده.
ثالثا: البلوغ؛ فإنه يشترط أن يكون المجتهد بالغا، أما الصبي؛ فلا يقبل اجتهاده، ولو بلغ رتبه الاجتهاد، وذلك لعدم اكتمال ملكاته العقلية، التي بها يتم الإدراك والتمييز.
رابعا: العدالة؛ والمراد بها الملكة التي تحمل صاحبها على اجتناب الكبائر، وترك الإصرار على الصغائر، والبعد عما فيه خرم للمروءة، ولا يشترط لتحقق شرط العدالة بلوغ المرء رتبة الفتيا والاجتهاد؛ إن أنه لا يمنع بلوغ بعض الفسقة رتبة الاجتهاد.
خامساً: فقه النفس؛ وحقيقة ذلك أن يبلغ الإنسان مرحلة من الفهم للنصوص، ودقه الاستنباط منها، وحضور البديهة فيها، والقدرة على التمييز بين المتشابه من الفروع، بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر – أن يبلغ مرحله عالية، بحيث تصبح هذه الأمور ملكة قائمه في نفسه، لا يحتاج معها إلى جهد في الوصول إليها.
سادسا: العلم بالقرآن؛ فيلزم المجتهد أن يكون عارفاً بكتاب الله؛ حيث أنه دستور الإسلام، ومصدره الأول، كما انه أصل جميع الأحكام، وأساس معرفة الحلال والحرام.
سابعا: كما أنه يشترط في المجتهد أن يكون عالما باللغة العربية؛ نحوها، وصرفها، وبلاغتها، ونثرها وشعرها، لأن الشرع جاء بلغة العرب؛ فلن يفهم كتاب الله، ولا سنة رسوله إلا من كان عرافا بهذه اللغة المباركة.
ثامنا: معرفة مسائل الإجماع ومذاهب العلماء في مسائل الخلاف، ومعرفة أصول الفقه، والعلم بالدليل العقلي.
أيها المسلمون: هذه جملة من الشروط التي حددها أهل العلم وأوجبوا توفرها لمن يريد بلوغ مرتبة الاجتهاد والفتيا، كما أشاروا -رحمهم الله- إلى أن هناك أمور يجب مراعاتها والحرص على الاتصاف بها؛ فمن ذلك: أن يكون المفتي؛ ظاهر الورع، مشهوراً بالديانة الظاهرة، والصيانة الباهرة، كما كان الإمام مالك -رحمه الله-؛ يعمل بما لا يلزمه الناس، ويقول: "لا يكون عالماً حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس، مما لو تركه لم يأثم، وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعه". وذكر الماوردي -رحمه الله- في الحاوي: "أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً، صار خصماً حكماً؛ فترد فتواه على من عاداه، كما ترد شهادته عليه".
وكذلك؛ لا بد أن يكون عالماً بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأقاويل أهل العلم قديماً وحديثاً، وعالماً بلسان العرب، عاقلاً، يميز بين المشتبه، ويعقل القياس؛ فإن عدم واحداً من هذه الخصال، لم يحل له أن يقول قياساً. عباد الله: وقد يغيب عن الأمة من لا تتوفر فيه شروط الاجتهاد في عصر من العصور نتيجة ضعفها وانشغال أبنائها بالمفضول عن الفاضل وبالمهم عن الأهم وبعلوم الدنيا عن علوم الشريعة الغراء؛ ففي هذا الحال أجاز أهل العلم جواز تجزئة الاجتهاد، وذلك بأن يبلغ بعض أهل العلم درجة الاجتهاد في بعض أبواب العلم، بأن يعرف أدلتها، ويتمكن من النظر فيها وتقريرها، دون أدلة غيرها، وعلى الشروط التي ذكرناها، مما له علاقة بهذه المسألة. والمتأمل في حقيقة الاجتهاد وأهميته ومجالاته وخطر التلاعب به من غير أهله يدرك عظيم حاجة الأمة لاستيعابه ومعرفة سمات أهله، وقد خصصنا لذلك ملفاً علمياً حوى ثلة من المقالات والخطب والبحوث والدراسات والكتب والنصوص المسموعة والمقروءة ومقاطع الفيديوهات؛ وذلك حرصاً منا على بسط هذا الموضوع وخدمته والاعتناء به لما له من الأهمية والمكانة في ديننا الحنيف، وقد تبلورت محاور هذا الملف على أربعة محاور، وهي على النحو التالي:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم